الجمعة، 30 مارس 2018

رحلة الدم

قراءة في رواية

(رحلة الدم)


لـ إبراهيم عيسى






- اشتريت الرواية منذ عام تقريباً ، وبعد مطالعة الموجز المطبوع على الغلاف الخلفي للرواية ، آثرت تأجيل قراءتها لإشكالية اختلاط الروائي بالتاريخي ، الذي يقسم جمهور القراء قسمين ، يدافع الأول منهما عن قوالب الشخصيات التاريخية منكراً ومهاجماً التدخل الروائي لدوافعهم وتحركاتهم والاستنتاجات التي يرمي إليها المؤلف سيما لو كانت هذه الشخصيات دينية كحال روايتنا ، والقسم الآخر الليبرالي الذي يناهض التشدد مؤكداً على ضرورة التحرر من الراسخ المتعارف عليه ومستنداً في المقام الأول أن العمل روائي وليس تاريخي ، وحتى لا أجنح لأحد القسمين دون اعتبارات حقيقية أجلت قراءة الرواية ومهدت لها بقراءات تاريخية في ذات الموضوع والفترة الزمنية (قرأت باب الخلافة والملك ومقتل الحسن والحسين في مقدمة بن خلدون ، ورثة محمد؛ جذور الخلاف السني الشيعي لبرنابي روجيرسون ، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق ، وشاهدت مسلسل عُمر ، وجيم أوف ثرونز) عسى إني أكون صورة تاريخية تساعدني إني أفرق بين وبين واعرف المرمى والمستقر ، وعسى إن الرواية تستحق بعد كل هذا العناء.

- على بركة الله نبدأ بشخصية (ابن ملجم المرادي) ؛ مبعوث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أثناء فتح مصر ، يرصد من خلالها الكاتب كل مظاهر ضيق الأفق وقِصر النظر وعمى البصيرة برغم أن ابن ملجم دوره ليس نزال بحرب ، بل تلاوة القرآن على الجند وتعليمهم إياه ، إلا أنه يضيق بدنياهم وربما يضيق بقرآنه ويأخذه على حرف واحد رغم نزوله على سبع أحرف ، لا يعرف من الجهاد سوى قتل المقابل والشهادة ، ويضيق بسياسة عمرو بن العاص إذا حققت النصر دون قتل او استشهاد ، ويضيق بعثمان ويضيق بنفسه ، فابن ملجم يريد الآخرة دون المرور بالدنيا , تثار على عقلية بن ملجم قضية أخرى مهمة وهي قدسية الصحابة المرسومة في فكره ، فيواجهم بشر غير معصومين وكان يخالهم ملائكة بحق صحبة الرسول وهو ما زاد من اضطرابه ، وبرغم أن ابن ملجم لا يعتبر بطل الرواية إلا أنه يُعد نموذجاً لعدد من الشخصيات تتشابه معه في الصفات ، كانت هذه الصفات هي التربة الخصبة لنبت الفتنة.

- في مشهد آخر نجد عمرو بن العاص بدهاءه المعهود يقلب جمر الثورة تحت عرش خلافة عثمان بن عفان معتمداً على ربيب عثمان (محمد ابن أبي حذيفة) ونجل الخليفة الأول (محمد بن أبي بكر) في تأجيج نار الثورة من مصر الذي تم تنحيته عن عرشها بعد تمام فتحها لصالح عبدالله بن أبي سرح قريب عثمان.

- لمحة أخرى ، ترصد الرحم الذي يضم جنين الفتنة حتى يضعه وليداً سريع الرُبا مُضطرب النشأة ، وهو المحمل السياسي (التأويل الدنيوي) الذي يخالط النوايا الدينية الخالصة لله ، وعلى الرغم من الشتان بين الإثنين إلا أنه من السهل جداً وقوع هذه المخالطة.

فهل حرب عبدالله بن أبي سرح (والي عثمان على مصر بعد عزل عمرو بن العاص) هل هذه الحرب البحرية الإفريقية خدعة حربية لتوسيع النفوذ ووأد معارضة (المحمدين) لخلافة عثمان أو هي حرب في سبيل الله وامتداد للفتوح الإسلامية ، وهي المعضلة التي ستستمر حتى يومنا هذا (فتوحات لدين الله أم غزوات لعروش خلفاء) ، (دين خالص لله أم دين ودولة لازمة له) !!؟ ، وعلى ذلك فإن معظم الشخصيات التي ظهرت في الرواية ستكون معيناً لهذا الخلط فإما أنصاراً للحاكم أو أتباعاً لمنابذة الحكم.

- واعتقد أن الكاتب قد ساق هذا الخلط والاضطراب بشكل جيد ، فتجد نفسك أمام الاحتمالين وكلاهما وارد ، فربما يكون المال الذي أرسله عثمان لربيبه في مصر رشوة لصد معارضته وربما تكون صدقته له ليعينه بها أو ليتصدق بها بدوره على فقراء المسلمين ، وربما تكون رسالة قتل الثائرين العائدين إلى مصر قد كتبها عثمان أو زورها عليه أحد بطانته (مروان بن الحكم) ، وغيرها من الازدواجات المحتملة التي تقبل دوماً التأويل.

- حتى يحتدم النزال بين فريقين وتختلف الرؤى من جماعة لأخرى أو بالأحرى بين شخص وآخر ، فيُدلي كلٌ بدلوه من التُهم والإشاعات دونما احقاق ، وينساق عوام الفكر وضالته كانصياع المرقوق للراقِ ، ويستكبر المُتحكِّم ويستهتر المُحْتكِم ، فتغدوا الفتنة ناراً تسوقها الرياح للهشيم ، فينزوي العقل ويفقد الحق أهله.

- انغمست فعلاً في اشتعال الأحداث الأخيرة للرواية وتلاحقت عيني بين الصفحات تستعجل النهاية ، ورغم ما يعنيه هذا لي من أني استمتع حقاً بما أقرأه إلا أن الوقائع كانت حزينة ومخزية ومخيفه واستوعبت لحظتها مدى صحة وعمق الإقرار القرآني بأن (الفتنة أشد من القتل) لأنها ببساطة تستدعي مزيداً من القتل والفتك والخزي الأعمى وكأن المفتونون (صم بكم عمي لا يعقلون ولا يرجعون).

- وفي الختام الرواية كانت مملة في بعض المواضع وتحولت في نهايتها إلى غاية في الإمتاع ، واعتقد أني سألحقها بقراءة كتاب الفتنة الكبرى في جزءيه (عثمان ، علي وبنوه) لـ طه حسين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق