الثلاثاء، 7 أبريل 2020

چان چاك روسُّو والكلب البلدي زيمباوي



چان چاك روسُّو والكلب البلدي زيمباوي


في تجربة لتنويع قراءاتي بما يتماشى مع الموضوعات التي تهمني، قررت أن أرجع بالزمن قليلا لكتابات چان چاك رسُّو، في محاولة للاطلاع على التأصيل الثقافي للحضارة الأوروبية، فقررت أن أبدأ بكتاب أصل التفاوت بين الناس ترجمة عادل زعيتر، أفهم جيداً أنني لا أقرأ الكتاب بلُغتهِ الأصلية وأن الترجمة لها أن تُثري العمل أو أن تَهوى بهِ أو أن تتأرجح بين هذا وذاك، ترجمة هذا الكتاب غاية في الصعوبة والالتفاف والغموض، يُكثِر المُترجِم من استخدام نفي النفي وتكثيف المصطلحات للدرجة التي فكرت كثيراً أن أتخلص من الكتاب، فضلاً على أن المقدمة التي صدّرها المؤلف تحت عنوان (إلى جمهورية چينيڤ)، رسالة تمتلئ بالمبالغة والتكلُف، يستعرض خلالها فضائل حكومة چينيڤ وشعبها، بشكل يبلغ حد التملق والنفاق، وكأنها يوتوبيا أوروبية محاصرة من قبائل الغزاة، مما زاد الكتاب مللا.

وفي اللحظة التي قررت فيها عدم استكمال الكتاب، تراءت لي أول فكرة واضحة من موضوع هذا الكتاب، وهي (أن منبع التفاوت بين الناس يرجع إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان، والصناعة التي يتبناها) وهي فكرة تتجلى في الحضارة والتمدين التي توسَم وهماً في زماننها بالرفعة والتطور في حين أنها تنطوي على قدر كبير من الحِطّة والدُنوّْ وتأخُر الفكر وخصائِص الجسد عن الإنسان الأول.

وليس أدنى من نقل هذه الفكرة كما وردت نصاً في الكتاب للتفكر فيها ثم التعليق عليها:

" إن التفاوت المتناهي في طراز الحياة، وفرط البطالة في أُناس، وفرط العمل في الآخرين، وسهولة تهييج شهواتنا وملاذِّنا، والأطعمة المبتغاه كثيراً من قِبل الأغنياء فتغذيهم بالعُصارات المسببة للحرارة وترهقهم بسوء الهضم، وأغذية الفقراء السيئة التي تعوزهم في الغالب أيضاً، والتي يحملهم عدمها إلى إثقال معدتهم بشره عندما تلوح الفرصة، والسهرات، وأنواع الدعارات، وعدم الاعتدال في تبادل ضروب الأهواء، ومتاعب النفس وضناها، وما لا يُحصى له عدٌّ من الكروب والرزايا التي يُشعَر بها في جميع الأحوال، والتي تضعف بها النفوس ضعفاً مستمراً، دلائل مشؤومة على كون معظم أمراضنا من صُنعنا الخاص، فكان يمكننا اجتناب جميعها تقريباً بمحافظتنا على (طراز العيش البسيط النمطي) الذي كانت الطبيعة قد فرضته علينا، وإذا كانت الطبيعة قد أعدتنا لنكون أصحاء فإنني أجرؤ على القول بأن حال (التفكير مناقضة للطبيعة)، وأن الإنسان الذي يفكر حيوان فاسد، وإذا ما نظر في نظام الهمج الصالح، نظام هؤلاء الذين لم نضيعهم بمشروباتنا الروحية، وإذا ما علم أنهم لا يعرفون من الأمراض غير الجروح والمشيب تقريباً.
وبما أن الإنسان خاضع لقليل من علل الأمراض في حال الطبيعة فإنه لا يكون محتاجاً إلى علاجات إذن، وأقل من ذلك احتياحه إلى أطباء، ولا يكون النوع البشري أسوأ من جميع الحيوانات الأخرى في هذه الناحية، ومن السهل أن يُعرف من الصائدين عن مصادفتهم حيوانات عليلة كثيرة في أثناء صيدهم أولا، وكثير من الصائدين من يجدون بين طرائدهم حيوانات أُصيبت بجروح بليغة فاندملت جيداً،  وحيوانات كُسرت فيها عظام، أو قطعت فيها أعضاء، فعادت إلى حالها من غير أن يكون لها جراح سوى الزمن، ومن غير أن تتخذ من النظام سوى حياتها العادية فشفيت تماماً من دون أن تؤلم ببضع، أو أن تُسَّم بعقاقير، وهذا يجعله في وضع أفضل من وضعنا غالباً.
والطبيعة تعامل جميع الحيوانات المتروكة لعنايتها باستحباب يدل على درجة اغتباطها بهذا الحق، فللفرس والهر والثور وللحمار أيضاً في الغالب، قوام أكثر علوًّا، وبنية أشد قوة ومتانة وجلداً وبأساً في الغابات مما في بيوتنا، وذلك أنها تفقد نصف هذه المزايا عندما تصبح أهلية، فيمكن أن يقال إن كل اعتناء في حسن معاملة هذه الحيوانات وتغذيتها لا يؤدي إلى غير إفسادها، وقُلْ مثل هذا عن الإنسان، وذلك أنه عندما يصبح أنيساً وعبداً يصير ضعيفاً جبانا ذليلا، ومن شأن طراز عيشه الرغيد المخنث أن يوهن قوته وشجاعته، ولنضف إلى هذا وجود فرق بين الرجل الوحشي والرجل المتمدن أكثر مما بين الحيوان الوحشي والحيوان الأهلي، وذلك بما أن الطبيعة تعامل الإنسان والحيوان على السواء فإن ما يمنحه الإنسان نفسه من رغد أكثر مما يمنحه الحيوانات التي يؤنسها يعد أسباباً خاصة في انحطاطه أكثر من انحطاطها".

الله عليك ياحج چان.

وبمفهوم الارتباط، فإن هذه الفكرة تقارب (أولاً) قراءاتي الإلكترونية لمدونة كاتب لبناني شاب، يدعى (طوني صغبيني)، يدعوا فيها للانتباه جيداً من مقومات الحياة الحالية التي تغرقنا مُستعبَدين للاستهلاك والاعتمادية التامة للمُستعبِد صاحب رأس المال لصناعة متطلبات حياتنا ابتداءً من قوت يومنا مروراً بأخر إصدار للتليفون المحمول، في حين أن ما يرسمه لنا التاريخ زيفاً وبهتاناً بأن الحياة البدائية انحطاط وتدهور، والحقيقة أن المتمعن جيداً يجد هذه البدائية هي التي تقيم الإنسان وترعاه وتكسبه قوة وصلابة العيش والهناء، وقد رأيت ذلك بأم روحي في زيارتي لطور سيناء ورحلة ارتقاء قمة جبل كاترين.

(ثانياً) منذ صغري وأنا أتمنى تربية كلب ولم تتح لي الظروف حتى التفكير في ذلك، ولما أدركت أن الحياة تتسرب من تحت الأيام وعرضت عليَّ الفكرة مرة أخرى اقتنصتها قبل وأدها، وخُلاصة التجربة التي مازلت أخوضها أنني تبنيت كلب شارع على حافة الهلاك وهو في عُمر شهر، وبهذا أكون قد تمردت على عرف اقتناء كلب للحراسة او لسلالته العريقة وعيونه وشعره المستوردين من بلاد الثلج، وفي نفس الوقت قطعت الدعوى البلهاء على معظم المقربين بمقولتهم (جايبين كلب تأكلوه وتطعّموه بالشيء الفلاني، ما الفقرا حواليكم في كل حتة)، في حين أنني (وكانت مفاجأة) شعرت بالإحراج الشديد عندما ذهبت لتطعيمه وسط أنواع الكلاب الزاهية، لأنتبه أن حتى التمرد يمكن أن يكون شكلياً ورداءً اجتماعياً مساوي لخيلاء ادعاء الارستقراطية (وفي الأخير كلنا فقراء) كما تقول زوجتي، التي أعانتني على تخطي هذا الإحراج شيئاً فشيئا.

الكلب يكبر سريعاً، متمرد وذو شخصية لافتة، ويفقدنا صبرنا سريعاً، في تحدي عجيب لفرض الرأي من كلانا، إلا أن هذه الشخصية سرعان ما تتواري حين يرى ضيفاً عابراً، لتتملكه حالة خوف تصاحبها عدوانية بطبيعة الحال، وعندما يرى الشارع كأنه على حافة الموت، الأمر الذي شعرت معه أنه ربما أكون قد أسأت له بتربيته في البيت الذي سيفقده صفاته الأساسية من الصلابة والقنص والمواجهة، ثم أتذكر أن المعادلة خاطئة فالشارع لا يمثل لهذا الجرو بيئة صالحة فنحن نراهم في معظم الأوقات مشردين معذبين حتى وإن كانوا أقوياء شرسين، فهي شراسة تولدها غريزة البقاء، وتقبل هذه القصة الإسقاط، فالشارع والبيوت التي تؤيينا ليست صالحة في معظمها لتنتج نفس إنسانية سوية، فكأنما نقايض مأكلنا بحبس أرواحنا، لندرك بعد ذلك أننا كذلك فقدنا مهارات الإنسان الأول.