الجمعة، 30 مارس 2018

قصة الإلحاد

قراءة في كتاب 

قصة الإلحادقراءة تاريخية

لـ محمود عبد الرحيم



# تأتي قراءتي لهذا الكتاب استكمالاً لرواية (موسم صيد الغزلان) التي تناولت على لسان بطلها رحلة إلحادية انتهت (بمنهجة الشك) لتمجيد السعي والبحث بدلاً عن ثبات المعتقد ، وذلك وجدتها فرصة مناسبة لبحث فكرة الإلحاد وقراءة تطورها الزمني والاجتماعي والفلسفي ..
__________________________________

- يعتبر كتاب قصة الإلحاد رحلة تاريخية فلسفية ، مكثفة ، وممتعة ، يتناول خلالها الكاتب مفهوم الإله عند الغرب باعتبارها الأمة التي سادت أفكارها في عصرنا الحالي بسيادة إنتاجها العلمي والاقتصادي ومن ثم الفكري ، مشيراً في البدايات لإسهامات العلماء والفلاسفة المسلمين أو بالأحري (الشرقيين) كهمزة الوصل للفلسفة اليونانية والتي انطلق منها عصر النهضة في أوروبا.

- تعرفت في بداية هذه الرحلة على الراهبان الإيطاليان في القرن الثالث عشر (توما الإكويني) وهو من أوائل المحاججين عن وجود الله بأدلة عقلية معتبرة ، مستنداً على أفكار أرسطو كالسبب الأول أو علة العلل والضرورة الحتمية وعدم عبثية النظام المُحكم للكون ، و (بونافينتورا) الذي ارتحل بالعقل إلى الله ، وخلُص إلى أن الإله موجود بدلالة عقلية وهي أن كل هذه المخلوقات تدل بالضرورة على خالق عظيم لا يستطيع العقل إدراكه لسموه عن الإدراك وسيبدو وصف الإله شيء لا يمكن للعقل تصوره.



- مع هذه البدايات حاولت الكنيسة بسط سُلطانها الديني على مقاليد الأمور وخاصة أن إطلاق العنان للعقل لتفسير (الله) ومن بعده الدين سيؤدي إلى خلل واضطراب ، وهو ماحدث بالفعل ، حيث واكبت هذه الحركة حالة الجنوح الديني في إسبانيا عقب حرب الاسترداد في (القرن الخامس عشر) وظهور ما يعرف بمحاكم التفتيش لليهود والمسلمين وغيرهم من المعارضين ، ولم يستقر لها الأمر فكلما ازداد سلطان الكنيسة ، توسعت معه إخفاقاتها وجمودها ، وما لبثت أن خاضت معارك دامية مع الإصلاحيين وعلى رأسهم (مارتن لوثر) الذي عارض سياسيات الكنيسة وخصوصاً (صكوك الغفران) وهو ما يمثل بداية الإنهيار لسطوة الكنيسة وانحصار سلطانها الممتد.



- وعلى الصعيد العلمي فقد سارت أوروبا على المنظور الأرسطي القائل بمركزية الأرض متماشياً مع المنظور الديني الذي يجعل الإنسان هو محور الأحداث ومن أجله قد بدأ الخلق ، واستمر ذلك (للقرن السادس عشر) حتى أسس (كوبرنيكوس) بحذر لنظرية تخالف المستقر الأرسطي من أن الأرض ليست مركزاً وأنبأ ذلك عن مواجهة أخرى للدين في مواجهة العلم ، وفي بدايات (القرن السابع عشر) استعلن بهذه النظرية وفك إشكالاتها عالم الفلك الألماني (يوهانس كبلر) ، حتى توجت هذه المساعي بنظرية (جاليليو جاليلي) التي برهنت على لا مركزية الأرض ، ولم تكن تلك الإسهامات العلمية تتضمن أي نية سيئة ضد الدين أو الوجود الإلهي بل كانت محاولة رياضية للتعرف أكثر على الله ، غير أن ذلك الوقت كانت أوروبا على صفيح ديني ساخن بسبب المواجهة الكاثوليكية البروتوستانتينة ، فأفرزت مواجهة أخرى بين العلماء متحرري الفكر في مواجهة الرؤية الدينية المتحجرة لرجال الدين.



- مفارقة عجيبة أن (الإلحاد) بمفهومه الحداثي لم يبرز من الطوائف المسيحية المتناحرة في أوروبا بل على يد بعض اليهود العائدين من النفي إلى هولندا أرض الحرية التي نأت بنفسها عن هذه الحروب الدينية المتعصبة ، فانخرط اليهود في المجتمع بعد أن عانوا الإنزواء بسبب الاستعلاء العقدي لديهم كونهم شعب الله المختار ، وشعروا بأن اضطهادهم كان ناتج دائماً عن دينهم وأنهم لم يجنوا سوى البؤس والتعصب فنادت بعض الأصوات بتنحية الدين تماماً ، وبأن البشر ليسوا في حاجة إلا إلى عقولهم ليستقيم عيشهم ، وكان أهم هذه الأصوات هما (أورييل دا كوستا ، خوان دي برادو) واللذان يعدان بطبيعة الحال مهرطقان في الديانة اليهودية.

- تحولاً آخر فكرياً وفلسفياً كان له أبلغ الأثر في أوروبا في (القرن السابع عشر) جاء على يد الفيلسوف الفرنسي (رينييه ديكارت) الذي أسس لمنهج فلسفي مبني على العلوم الرياضية ، ووجد أن هذا المنهج هو طوق النجاة في بحور الخلافات العقدية وأن العلوم الرياضية قادرة على الوصول للمعرفة بشكل تتوحد معه كافه الانقسامات ، وأسس لمنهج الشك الذي استدل به على وجود ذاته ومن ثم نقصها وصولاً لإدراك الكمال المطلق المتمثل في الإله ، ويرى أن ذلك الإله كلي القدرة والكمال قد خلق الكون وأودع فيه القوانين لتسييره دون تدخل منه كعلاقة صانع الساعات بالساعة عقب الانتهاء من صناعتها ، وأن علينا إدراك هذه القوانين ، وتعتبر هذه النقلة هي الأساس للثورة العلمية والفلسفية التي ستأتي من بعده وكأنها في معظمها إنعكاسات لأطروحاته الفلسفة/الرياضية ، وقد كانت أطروحات علمية لا تنافي الدين.



- حتى تنبأ (بليز باسكال) عالم الرياضيات الفرنسي بأن علمنة الدين ستطيح بعرش الدين ولن يكون للعامة من الناس الرادع الروحي الذي يمثله الدين ، وتحقق ذلك بشكل ما على يد الفيلسوف الهولندي اليهودي (باروخ إسبينوزا) والذي يعتبر رائد العلمانية في عصر النهضة ، حيث طرح فكرة وحدة الوجود وهي أن الله والطبيعة وجهان لعملة واحدة فالله موجود في الكون غير منفصل عنه ، وعليه فلم يعد بنا حاجة للدين أو لرجال الدين ، واعتبرته الجالية اليهودية مهرطقاً ونزعت عنه ثوب التدين اليهودي ، فاستطاع ان يستكمل رحلته متحرراً من ثوب الدين طليقاً من قيوده.

- وجاءت مساهمة الفزيائي البريطاني (إسحاق نيوتن) في نهايات (القرن السابع عشر) وبدايات (القرن الثامن عشر) ، ليكشف أهم القوانين التي يسير عليها الكون ويبرهن علمياً على وجود الإله الذي أعمل القوانين وبثها في مادة الكون الخاملة كضرور حتمية ، هذه المساهمات من نيوتن أسست بقوة لما يعرف باللاهوت العلمي ، والذي ساد الأوساط العلمية وقتها ، حيث وأنه إنطلاقاً من حقيقة وجود الإله فإنه لا مجال لإنكاره حتى ولو استطعنا أن نجنب الدين بشكله القديم (الخرافي المتسلط برجاله) من حياتنا ، ورأى البعض أنه على الدين أن يخاطب الناس في كثير من الأخلاق والفضائل وقليل جداً من علوم اللاهوت ، فقد عاشت أوروبا عصور ظلامية دامية بسبب هذه الأفكار الغيبية المتعصبة.



- أولى المعارك الفكرية الصريحة لنقض فكرة الإله وليس مجرد الدين كانت في القرن الثامن عشر على يد الفيلسوف الفرنسي (دنيس ديدرو) ، والفيلسوف الألماني (بارون دي هولباخ) ، واللذان عملا معاً على وضع أولى الموسوعات المعرفية ، اعترضا على أطروحات نيوتن العلمية والتدليل بها على وجود الله ، وافترضا أنه في البدء لم يكن غير الفراغ وأن العالم وُلد بمحض الصدفة من فراغ وأنه غير نظامياً وبه الكثير من المتناقضات والدليل على ذلك (الانتقاء الطبيعي / التطور) وصراع البقاء القاسي بين الكائنات وأن البشر على قلة علومهم كانوا يعتقدوا في إله لكل ظاهرة لا يفهمونها والآن يجمعونهم معاً في كيان واحد كلي العظمة ، وأننا الآن في عصر العقل الذي يمكن أن نستعيض به عن الفكره البدائية بوجود إله ، ويمكن أن يعبر عن أفكار (دنيس ديدرو) إثنتين من أشهر أقواله "لن يتحرر البشر إلا عندما يتم خنق آخر ملك بأحشاء آخر رجل دين" ، "لم يسبق لفيلسوف أن قتل رجلاً من رجال الدين بينما قتل رجال الدين الكثير من الفلاسفة" ، ويمكن كذلك أن نعتبر تلك الأفكار الإلحادية مبنية في الأساس على الرفض التام للتعسف والدموية التي افرزها السلوك الديني الذي أغرق أوروبا في الظلام والدماء.

- وعلى الجانب الآخر فقد قام (ديفيد هيوم ، إيمانويل كانط) بطرح مفاهيم أخرى عن تحجيم العقل المطلق ، وأن العقل محكوم بقدرات وإدراكات محدودة لا يمكن الوصول بها إلى إثبات وجود الإله أو نفي وجوده ، وقدم (وليام بيلي) فكرة اعتقاده بوجود إله مستنداً على العلة الغائية وبحجة صانع الساعات وهو أنك إذ تسير في صحراء شاسعة وتجد ساعة ملقاه على الأرض فإنك لا تفترض أبداً أنها صنعت بمحض الصدفة.

- وتكررت هذه المعركة مرة أخرى عقب (الثورة الفرنسية) ١٧٨٩-١٧٩٩ التي وإن كانت قد تولدت نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل أساسي إلا أن الكنيسة ممثلة للدين كانت في خضم هذه الأجواء كسبب آخر لقيام هذه الثورة التي أثرت في أوروبا وفي العالم كله تأثير واضح ، وامتد هذا التأثير إلى المنحى الديني أيضاً الذي أخذ في الإنحصار وبرزت معه ضرورة فصل الدين عن الدولة ، وكان الفيلسوف الألماني (فريدريك هيجل) من المتابعين والمتأثرين بهذا الحراك ومثلت أفكاره الفلسفية أو ما يعرف (بجدلية هيجل) ميزان للتوفيق بين الدين والحركات الحداثية لتمحيص المتناقضات وتخليص الحقيقة من شوائبها.

- وفي القرن التاسع عشر أفرزت الثورة الصناعية والاقتصادية في أوروبا الغربية سطوة نخبة البرجوازية وبالتبعية ساءت أحوال الطبقات الدنيا من المجتمع (من العمال والفلاحين) فنشأت الأفكار الاشتراكية في البداية كمحاولة خيالية لإصلاح ما أفسدته الثورة الصناعية ثم تأسست الشيوعية بشكلها المعروف على يد (كارل ماركس ، فريدريك أنجلز) اللذان أوضحا أن رأس المال (العوامل المادية) وما يصاحبه من صراعات طبقية هو المحرك الأساسي للتاريخ وأن (الدين) ماهو إلا (وهم) ادخلته الطبقات النخبوية على عقول العامة حتى يستمروا هانئين في حالة العبودية الاقتصادية والفكرية التي تصب في صالحهم.



- في منتصف (القرن التاسع عشر) نشر (تشارلز دارون) كتابه عن أصل الأنواع مؤسساً لنظرية التطور التي تقول بأن الكائنات الحية تطورت ببطء على مر الأزمنة وأن الصراع دائم وأن البقاء دائماً للكائنات الأصلح للتعايش والتأقلم مع بيئتها ، وأن ذلك ينافي وجود خطة إلهية كما تتصورها الأديان ، ورغم ذلك فإن داروين نفسه لم ينكر وجود الإله بل أنه اعتبر أنه لا يصح التشكيك في الجمع بين فكرة وجود الإله ونظرية التطور وأنه لم يلحد حتى وفاته وإن كان يعتبر نفسه لا دينياً ، كما أنه لم يكن الوحيد التي تكلم عن التطور بل كان هناك من سبقوه ، ولم يكن الأمر حتى بعد إقراره علمياً كضربة موجهه للدين بل كانت مجرد حقيقة علمية لم تؤثر في إيمان كثير من العلماء وقتها حيث يمكن أن يسري قانونها العلمي تحت إرادة المحرك الأول ، الإله ، واضع القانون.



- ولكن وجدت نظرية التطور - مع بعض المراجعات النقدية للكتاب المقدس - الصدى في أفواه بعض العلماء المتعصبين للعلم بأن ذلك التقدم يمثل دلائل علمية على (الإلحاد) ليس مجرد رؤى فلسفية ، ووقف بعض العلماء موقف الوسيط حيث أن الأدلة العلمية وإن كانت لا يمكن أن تثبت وجود الإله فإن إنكارها له يعد استنتاجاً غير تجريبياً كذلك ويشبه إيمان مناصري الدين ، وهو ما سيعرف بـ (اللاأدرية) وكان من أهم من قالوا بهذا الرأي العالم البريطاني (توماس هُكسلي) إلا أنه ومعه العديد من العلماء في ذلك الوقت كانوا متفقين على أن العلم هو الذي يقود البشرية إلى الرقي والتقدم وأن صلوات المتدينين لم تأتي سوى بالدماء.

- المزيد في إتجاه الإلحاد في أواخر (القرن التاسع عشر) يتناول (فريدريك نيتشة) في كتابة هكذا تكلم زرادشت فكرة موت الإله أو على الأقل موت الإله في قلوب مناصريه الذين أحالوا الدين إلى أوهام وعصبيات خرافية ، و(سيجموند فرويد) رائد التحليل النفسي الذي أخذ يحلل سلوك الإنسان منطلقاً ومستنتجاً أن الدين كان مجرد محاولة بدائية لفهم الظواهر الذي استعصت على البشرية في مهدها واستمر بسبب رغبة الإنسان الدائمة في اللجوء لكيان أعلى يبرر لها حياتها وسلوكها وأن العقيدة لا تمثل للإنسان سوى مجموع الغرائز الدفينة التي تحركه وتبرر سلوكه وعلى رأسها غريزة الجنس.

- وفي تطور مُعادل ، كشفت (الحروب العالمية) في القرنين (التاسع عشر والعشرين) أن للعلم وجه آخر أكثر فتكاً ودموية من الوجه التي طالما استوحشوه العلماء في الدين وما حوله من خرافات وتعصبات ، والذي كان أساساً جوهرياً في نبذ الدين وإحلال العلم مكانه عقائدياً قبل أن يكون اقتصادياً واجتماعياً.

- ليأتي (ألبرت أينشتين) في بدايات القرن العشرين بنظرية النسبية ليغير من الركائز العلمية التي أرساها نيوتن ، وليكشف كذلك أن العلم لم يفك لغز الكون بل ينبيء بمزيد من الألغاز وأن ما توصلت إليه العلوم كانت مجرد ذرات رمال على بحور من المتواريات ، وأنه أقرب أن يكون لكل هذه القوانين واضع ومتحكم ، ورغم أن اكتشافات أينشتين كانت علمية بحتة إلا أنها حملت معها خلافات فلسفية أكثر من ذي قبل.




- ليتخبط العالم فكرياً على مدار (القرن العشرين) فبينما يتبنى الفيلسوف النمساوي اللاأدري (كارل پوپر) مذهب للعقلانية العلمية ورأى أن نظرية التطور مثلاً غير قابل للتطبيق التجريبي وانها تشبه البحث الميتافيزيقي وأن اخطر المظاهر على هذه العقلانية هي (الدوجماطيقية) التعصب المبني على الشعور الواهم بامتلاك الحقيقة المطلقة دينياً أو علمياً - فنجد فلسفات أخرى متخبطة كوجودية (جون بول سارتر) وعدمية (شوبنهاور) ووهم (ألبير كامو) ، ونتيجة لهذا التخبط استعلنت حالة التمرد العام في (النصف الثاني من القرن العشرين) ، تمرد على أية قيود علمية أو دينية ، تمرد على الحرب ، في الموسيقى والأزياء والذوق العام ، تحرير المرأة ، المناداة بحرية الجنس والإجهاض ، تقنين الشذوذ الجنسي ، وأصبحت العامة تستعلن بإلحادها تمرداً أو عن قناعة ولم يستلزم الأمر أن تكون فيلسوفاً أو عالماً حتى تستعلن بأفكارك وذلك بفضل طفرات التواصل الاجتماعي ، ولسد الفراغ الروحاني ظهرت اتجاهات لعبادة الشيطان وممارسات أخرى روحية غير دينية.

- من رحم هذه الحالة من التخبط والجنوح المادي تولدت تيارات الأصولية الدينية في مواجهة تيارات الأصولية العلمية ، يتسم التياران في أغلب الأحيان بالدوجماطيقية تلك التي حذر منها كارل پوپر ، جماعات دينية في كافة الأرجاء تستعلن بامتلاكها الحقيقة المطلقة بعضها على استعداد لإفناء نفسه والآخرين في سبيل إثبات ذلك ، وتيار من العلماء يمكن أن يطلق عليهم (الملحدون الأصوليين) يرى بعضهم أن نهاية القول هو ما يرتأوه ..
ومازال الجدال مستمراً ...






- كل ما سبق كانت محاولة مني لقراءة تطور مفهوم الإله التاريخي/الفلسفي/العلمي لدى الغرب ، أما عن رؤيتي الشخصية (الحالية والمبدئية) وفقاً لهذه القراءات ولغيرها من التجارب الفكرية التي مررت بها ، هي أن وجود إله يُعد ضرورة عقلية وحتمية يُنبيء بها الكون ، ويتفق معها العقل على مراحل تطور مدركاته ، لا استسيغ فكرة نشوء هذا الكون عن محض صدفة ، بل أعتقد في خالق له مستقل ومنفصل عنه في الكينونة ولكنه يتجلى عليه بصفاته ، كلي العظمة والقدرة ، أودع في هذا الكون أسباب نشوءه وقوانين تسييره ، إله أوسع وأشمل من كافة تصوراتنا الدينية أو العقلية عنه ، ولذلك فإن كل الاختلافات أو الإضطرابات الدينية لا تؤثر عندي في هذا المفهوم ، ولا أرى كذلك تعارضاً بين نظرية النشوء والارتقاء وبين وجود خالق ، التعارض ربما يكون في مفهوم الدين لدينا عن الخلق ، فمثلاً لا أظن أن (آدم) هو أول البشر ولا أظن في مركزية الإنسان وأن كل هذا الكون خلق من أجله ، بل أعتقد أن الإنسان حلقة في سلسلة وغايته هو اكتشاف هذه السلسلة والتناغم معها ، وأن واختباره يكمن في أداءه في هذه الرحلة ، وبالنسبة للأدلة العلمية (الفزيائية أو البيلوجية) أو حتى (نظرية التطور) التي يستدل بها (الملحدون الجدد) على عدم وجود إله فإنها سياقات وعلوم متخصصة حتى يمكن أن يستند عليها الخاصة من متناولى هذا العلم بالدراسة ، أما أن أقرأ ولا يتعدى فهمي لها غير القشور ثم أتخذ قرار بالإلحاد فذلك لا يعدوا كونه (إيماناً علمياً مشوشاً) مضاد (لإيمان ديني مشوش) كذلك ، ولذلك فإني أعتقد أن التعرف على الإله رحلة ذاتية شخصية تخص كل إنسان على حدا.

__________________________________

# القراءات المُكملة لهذه القراءة ضروري أن تتناول البحث عن كل هؤلاء الفلاسفة الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب ، وكذلك البحث في نظرية التطور ، وعندي بالمكتبة كتباً يمكن قرائتها في هذا الشأن وبالصدفة هي من ضمن المراجع التي أشار إليه هذا الكتاب وهي : (معجم الفلاسفة لجورج طرابيشي) (داروين متردداً: نظرة مقربة لتشارلز داروين وكيف وضع نظريته عن التطور لديفيد قوامِن) (أعظم استعراض فوق الأرض لريتشارد دوكينز) ، وكذلك سلسلة نظرية التطور لعدنان ابراهيم.

# القراءة والموسيقى يتلازمان عندي ، ولذلك تجدر الإشارة لقطعة الموسيقى أو الأغنية التي لازمتني في قراءاتي ، أحياناً يكون لها دلالات وأحيانا أكتشف ملائمتها بالصدفة ، والموسيقى التي شابهت ولائمت واقترنت بهذه القراءة هي كونشرتات الفصول الأربعة لأنطونيو فيفالدي :



# معارف وأسماء قمت بالبحث عنها سريعاً في جوجل وفي كتاب معجم الفلاسفة لجورج طرابيشي :
* توما الأكويني
* بونافنتورا
* كوبرنيكوس
* يوهانس كبلر
* أورييل دا كوستا
* خوان دي برادو
* رنييه ديكارت
* جون لووك
* بليز باسكال
* باروخ اسبينوزا
* إسحق نيوتن
* دينيس ديدرو
* بارون دي هولباخ
* فريدريك هيجل
* ديفيد هيوم
* إيمانويل كانط
* وليام بيلي
* كارل ماركس
* فريدريك أنجلز
* تشارلز داروين
* فريدريك نيتشة
* جون بول سارتر
* ألبير كاو
* شوبنهاور
* كارل بوبر
* ريتشارد دوكينز
* ستيفين هوكينج

موسم صيد الغزلان

قراءة في رواية

(موسم صيد الغزلان)


لـ أحمد مراد






 - هذه المرة رحلة إلى المستقبل يستغل فيها مراد ريادة التكنولوجيا ويعزز الواقع المستقبلي من خلالها ، أدوات نسمع بها الآن ويتابع تطورها المهتمين بالتكنولوجيا ونراها في أفلام الساينس فيكشن وخصوصاً فيلم (Minority Report) ، (عدسات معززة للواقع بالمعلومات AR Augmented Reality ، ظاهرة الخرس التخاطري Muteness Telepathy التي نعايشه حالياً بشكل ما ، الاستنساخ ، الروبوتس ، الهولوجرام ، الـ Nanometric Drones طائرات دون طيار ...) ويسوق على خلفية هذه الأدوات المستقبل الفكري لمترسخات الفسلفات والمعتقدات الحالية فهي رواية فكرية على كل حال وليست تكنولوجية.

 - نفُك بقى شوية ونخلّي البُساط (أحمدي مراد) ونكتِب بالعامية :- اللغة كانت مزيج ما بين الفصحى والعامية ، الفصحى للراوي والعامية للحوار ، وعامية مراد عموماً متوظفة كويس باستثناء كام كلمة كدة مصمم عليها زي كلمة (كلوت) اللي تاني مرة يستخدمها بعد 1919 وبصراحة بحس أنها كلمة (كلوت) قوي.

 - بنشوف (نديم) عالِم البيولوجيا ودكتور علم النفس التطوري في أول الرواية بيُلقي محاضرة بيستعرض من خلالها ملامح المستقبل القريب ، زلزال البحر المتوسط اللي هايغرَّق الاسكندرية والدلتا ، جفاف النهر ، التخليق المعملي ، الهندسة الوراثية اللي هايستبدل بيها الإنسان 95? من أعضاءه ، ويختار وينقي جينات مولوده وصفاته ، ومع كل العلوم الدنيوية دي (علوم الشهادة) هاتتراجع وتخفت علوم الآخرة (علم الغيب) فهل ستكون الأديان وقتها مجرد تفسيراً بدائياً للي كان يجهله الإنسان عن إمكاناته وقدراته ؟!...

- (نديم) بطل الرواية ، واضح من البداية إنه مُنكِر لوجود الإله بكل توابعة وبيمجد الإنسان وبيرصد تطوره وبيتنبأ بمصيره على ضوء المعطيات اللي بيعيشها ، وبيعزز الرؤية دي عن طريق سرد الأدلة المعروفة في نظرية التطور (أصل الأشياء والنشوء والارتقاء) لتشارلز داروين ، وبغيرها من التساؤلات الوجودية والقضاء والقدر وعدالة الحساب ، علة خلق الملائكة واستخدامهم ، تسخير هذا الكون غير المتناهي لنوع واحد من ضمن أنوع كثير ، إختبار التكليف والمفهوم الديني بقبولنا لـ (الأمانة) في عالم الذر ، (وكل الأسئلة دي عموماً مش جديدة ومطروحة جداً على الساحة) ، بعد كدة بنعرف إن نديم فَقَدْ بنته الوحيدة (سُلاف) اللي نقى جيناتها ع الفرازة علشان تكبر مميزة في وسط كل التحديات دي ، وكانت مشتركة في أولمبياد برلين للروبوتس ، وكان مشروعها روبوت بيعوم ، وبالمناسبة دي الموضوع ده لسة شغالين عليه ونازل من اسبوع على TED Talks Arabic ، المُهم.. بيفقدها في تفجير نووي إرهابي هايطيح بملايين البشر في ثانية ، برغم كل التقدم اللي وصلوت له البشرية ، يظَل الموت مُعجِز ليهم ، زي حقيقة بتطلَّع لهم لسانها في تهكُم واستهتار ، ودي اللحظة اللي أفقدت نديم إيمانه بكل شيء.
-  نديم اللي بيمر بحالة ملل شديدة من زوجته مريم (الغزال القديم الشاحب) بيظهر له شخصيتين هايكمل معاهم الرواية ؛ (تاليا) غزالة حمراء الشعر وعندها تاتو ماندالا في سمانتها وكعبها محني وذوقها غجري ، و(طارق) زوجها مزاجه صوفي ، وبيعرض على نديم إنه يخوض تجربة روحية في (الملاذ) فيلا قديمة بحي الزمالك المُطل على النهر الجاف بالعاصمة القديمة ، ليتخلص من كل تعقديات التكنولوجيا والأفكار ليقابل أغرب شيء في الدنيا (نفسه)...

 - هايعيش في التجربة دي 3 تجسيدات لحيواة سابقة عاشها نديم (على طريقة تناسخ الأرواح في الديانات الهندوسية) ، هايخاف نديم لإن ده هايثبت بالضرور وجود روح اللي بيؤكد العلم كل ما بيتطور على عدم وجودها ، ولما يمر بالتجربة رقم 4 (للحياة السابقة مباشرة) ، هايكشف له (طارق) إللي هايطلع عمره وقتا فوق الـ 100 إنه كان بيحاول ينتقم منه علشان خطف منه حبيبته في الحياة السابقة ، وإنه اكتشف أدوات تمكنه من مراقبة روحه لما تحل في جسد جديد وإنه (نديم) ماتعلمش من أخطاءه في الحيواة السابقة ورجع يكرر نفس الأخطاء دي (صيد الغزلان) وإن (تاليا) الغزالة المحنية في حياة نديم ما هي إلا (روبوت) ، وبنشوف نديم في النهاية بيغير عقيدته تماماً لضرورة وجود إله (أياً كانت مسمياته) أنشأ كمحرك أول وبيحافظ على الكون ده ، وإن الإنسان الملحد هو أكتر حد شغوف بمعرفة الإله ، وإن الشك هو وقود الإيمان وإن الإنسان لازم يكون مرن في أفكاره وتصوراته.

#  بعض الخواطر  :

(لما يمكن أن يتصوره البعض من أنها رواية تدعوا للإلحاد ولإنكار وجود الإله والأديان) :
- حتى وإن صح ذلك فأنا لا أجزع أبداً من قراءة افكار تخالف تماماً كل ما ترسخ لدي من أفكار لأنه ببساطة ليس هناك مترسخ ، التغيير والإحلال والإبدال هو السائد ، ولذلك ليس معنى قراءة رواية ما تنكر وجود الإله أو الأديان أنني آمنت بما تقول فكلها افكار تثير (السؤال والبحث) وهما أكسير الحياة ، فالإنسان الذي لا يطرح التساؤلات ويبحث عن الإجابات إنسان ميت ، وأفضل الأسئلة هي التي تسترعي انتباهك وتستفز قدرتك على التفكير وتقليب الرواسب ، وأنا لا أعتبر هذه الرواية (دعوة تبشيرية بإلحاد أو بغيره) لمجرد أنها تناولت أفكاراً إلحادية ، فهي أفكاراً ذاتيه على كل حال تخص أشخاصها ، والعبرة ليست في الداعي بل الاعتبار كله للمدعو ، عليه ألا يتخشب وأن يفكر ويبحث ، فضلاً عن أن أفضل طريقة لاختبار معتقداتك (بشكل عام) هي مناوشتها بالمضاد والمخالف فهو أوسع للمدى وأجلى للإدراك وأسلم للفكر "فياطاعتي لو كنتِ كنتُ مقرباً ومعصيتي لولاكِ ماكنتُ مجتبى ، وما العلم إلا في الخلافِ وسرِّه وما النورُ إلاَّ في مخالفةِ النهى" (للشيخ الأكبر مُحي الدين بن عربي)

- معظم الآراء اللي أثيرت في الرواية على شكل حوار بين الشخصيات هي في حقيقتها تساؤلات معقولة جداً ومعظمها قديم غير مستحدث مثل إن آدم ليس هو أول البشر إنما يمكن أن يكون أول المكلفين ، وأن قصة الخلق في القرآن (إني جاعل في الأرض خليفة) يُمكن أن يكون لها تأويلات مجازية ، فلم أتفاجأ وقد مرت عليَّ من قبل ، وأثناء بحثي وجدت آراء مشابهة عدنان ابراهيم ومصطفى محمود، وشاههدت أفلام وثائقية كتيرة عن إحلال الهوموسابيان مكان النيندرتال.

- وبالنسبة للنظرة الإيروتيكية والنزعة الحسية في التعامل مع الأنثى ، وروح القنص لدى الرجال (الذئاب) فدا واقع زي العسل بنعيشه ومانقدرش ننكره وبيبقى على هوايا في أغلب الأحيان ، كل ما هناك إن فيه حدود وقيود بيضعها الانسان حوالين سلوكه إما بوازع ديني أو اجتماعي أو قانوني ، والانضباط كويس ومطلوب بس مش معناه أبداً إنه نزع النزوات دي من قلوبنا، هو حجّمها فقط ، وهنا تأتي أهمية الروايات اللي من النوع ده لإنها بتمثل لي متعة افتراضية لتفريغ هذه النزوات.

- من الحاجات اللي شايفها سلبية في الرواية ، إحساسي بإنه تم اثبات (وجود الروح) وهو الشيء المختلف فيه إللى مانقدرش نثبته علمياً ، عن طريق (التناسخ) المختلف فيه واللي مانقدرش نثبته علمياً برضوا ، علاوة على إن الأجهزة اللي اكتشفها طارق علشان يصطاد روح نديم المتناسخة ، كانت هامشية جداً ، زي حادثة موت (سُلاف) بنت نديم كدة ، فتحس إن التقدم التكنولوجي ده ماشي في طريق وإن المسائل الروحية دي ماشية في طريق مفارق تماماً ، زي معظم محاور الرواية كدة ... (تساؤلات علمية ممكن تهز صورة الإله ، تقدم تكنولوجي ، صيد غزلان ، تناسخ أرواح ، انتقام ، إيمان بوجود محرك أول ، شك يؤدي إلى يقين) ، الشك والتساؤل صحي وحلو مافيش كلام ، بس حسيت الحبكة مش ملمومة وخصوصاً في النهاية ، على عكس الفيل الأزرق.

- برغم إن معظم شخصيات مراد شبه بعضها إلا إني بتعجبني فيهم ريحة التمرد ، بيتكلموا مع نفسهم كتير ، مش متحفظين طبعاً ، وبيمارسوا شغلهم في حياتهم الاجتماعية (مش موظفين يعني) ، مندوب المبيعات اللي بيبيع أي حاجة لأي حد ، الطبيب النفسي اللي بيقرا لغة جسد كلب معدي بالصدفة ، وفي الرواية دي نديم بيمارس البيولوجيا وعلم النفس التطوري علشان يصطاد الغزلان بعد مايفكك شفراتهم الجينية ، وإن كانت شخصية نديم ضعيفة لإني مش قادر أعرف المميزات اللي بتخليه بطل الرواية ! هل هي البيولوجيا وعلم النفس التطوري ؟! ولا علشان صياد غزلان ؟! ولا النزوع الإلحادي ؟! ما هو مش معقول بطل في نفسه كدة علشان بيفكر ؟! طيب ما هو فيه ملايين مؤمنين وكفاءه يعني وصيادين برضوا ؟!

- في مشهد زيارة تاليا وطارق لنديم ومريم في بيتهم ص 224 لاحظ نديم ان تاليا كانت تقف في رداء (أخضر) وشعر تضفَّر في جدائل رفيعة... ولما مشيوا وقعدت مريم تراجع تفاصيل الزيارة في عدستها الإلكترونية كعادتها ص 254 توقفنا عند صدر فستان تاليا (الأزرق) المفتوح الذي طلّت منه ثمرتان الجنون... فأنا عايز أعرف هو كان أخضر ولا أزرق.

- واختم بإنه في روايات (مراد) عموماً بيبان إنه بيقرأ عن اللي بيكتب عنه وبيستخدم قراءاته دي في تضفير الرواية ، وده سلاح ذو حدين ؛ ممكن يتحس في أوقات نوع من الاستهلاك والترصيص ، وممكن يتوظف كويس ويخدم الحبكة فيكوِّن معلومة يتبحث عنها ويتبني عليها وأنا ميال للحد الأخير ده ، وهاذكر شوية حاجات جديدة كدة صادفتها في الرواية ورحت بحثت عنها ...

* موسيقى السيتار النهدية.
* حجر الأماتيست من الأحجار الكريمة.
* الحية البيضاء
* الإضطراب ثنائي القطب

- أخر حاجة بقى ، الغلاف تحفة.




رحلة الدم

قراءة في رواية

(رحلة الدم)


لـ إبراهيم عيسى






- اشتريت الرواية منذ عام تقريباً ، وبعد مطالعة الموجز المطبوع على الغلاف الخلفي للرواية ، آثرت تأجيل قراءتها لإشكالية اختلاط الروائي بالتاريخي ، الذي يقسم جمهور القراء قسمين ، يدافع الأول منهما عن قوالب الشخصيات التاريخية منكراً ومهاجماً التدخل الروائي لدوافعهم وتحركاتهم والاستنتاجات التي يرمي إليها المؤلف سيما لو كانت هذه الشخصيات دينية كحال روايتنا ، والقسم الآخر الليبرالي الذي يناهض التشدد مؤكداً على ضرورة التحرر من الراسخ المتعارف عليه ومستنداً في المقام الأول أن العمل روائي وليس تاريخي ، وحتى لا أجنح لأحد القسمين دون اعتبارات حقيقية أجلت قراءة الرواية ومهدت لها بقراءات تاريخية في ذات الموضوع والفترة الزمنية (قرأت باب الخلافة والملك ومقتل الحسن والحسين في مقدمة بن خلدون ، ورثة محمد؛ جذور الخلاف السني الشيعي لبرنابي روجيرسون ، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق ، وشاهدت مسلسل عُمر ، وجيم أوف ثرونز) عسى إني أكون صورة تاريخية تساعدني إني أفرق بين وبين واعرف المرمى والمستقر ، وعسى إن الرواية تستحق بعد كل هذا العناء.

- على بركة الله نبدأ بشخصية (ابن ملجم المرادي) ؛ مبعوث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أثناء فتح مصر ، يرصد من خلالها الكاتب كل مظاهر ضيق الأفق وقِصر النظر وعمى البصيرة برغم أن ابن ملجم دوره ليس نزال بحرب ، بل تلاوة القرآن على الجند وتعليمهم إياه ، إلا أنه يضيق بدنياهم وربما يضيق بقرآنه ويأخذه على حرف واحد رغم نزوله على سبع أحرف ، لا يعرف من الجهاد سوى قتل المقابل والشهادة ، ويضيق بسياسة عمرو بن العاص إذا حققت النصر دون قتل او استشهاد ، ويضيق بعثمان ويضيق بنفسه ، فابن ملجم يريد الآخرة دون المرور بالدنيا , تثار على عقلية بن ملجم قضية أخرى مهمة وهي قدسية الصحابة المرسومة في فكره ، فيواجهم بشر غير معصومين وكان يخالهم ملائكة بحق صحبة الرسول وهو ما زاد من اضطرابه ، وبرغم أن ابن ملجم لا يعتبر بطل الرواية إلا أنه يُعد نموذجاً لعدد من الشخصيات تتشابه معه في الصفات ، كانت هذه الصفات هي التربة الخصبة لنبت الفتنة.

- في مشهد آخر نجد عمرو بن العاص بدهاءه المعهود يقلب جمر الثورة تحت عرش خلافة عثمان بن عفان معتمداً على ربيب عثمان (محمد ابن أبي حذيفة) ونجل الخليفة الأول (محمد بن أبي بكر) في تأجيج نار الثورة من مصر الذي تم تنحيته عن عرشها بعد تمام فتحها لصالح عبدالله بن أبي سرح قريب عثمان.

- لمحة أخرى ، ترصد الرحم الذي يضم جنين الفتنة حتى يضعه وليداً سريع الرُبا مُضطرب النشأة ، وهو المحمل السياسي (التأويل الدنيوي) الذي يخالط النوايا الدينية الخالصة لله ، وعلى الرغم من الشتان بين الإثنين إلا أنه من السهل جداً وقوع هذه المخالطة.

فهل حرب عبدالله بن أبي سرح (والي عثمان على مصر بعد عزل عمرو بن العاص) هل هذه الحرب البحرية الإفريقية خدعة حربية لتوسيع النفوذ ووأد معارضة (المحمدين) لخلافة عثمان أو هي حرب في سبيل الله وامتداد للفتوح الإسلامية ، وهي المعضلة التي ستستمر حتى يومنا هذا (فتوحات لدين الله أم غزوات لعروش خلفاء) ، (دين خالص لله أم دين ودولة لازمة له) !!؟ ، وعلى ذلك فإن معظم الشخصيات التي ظهرت في الرواية ستكون معيناً لهذا الخلط فإما أنصاراً للحاكم أو أتباعاً لمنابذة الحكم.

- واعتقد أن الكاتب قد ساق هذا الخلط والاضطراب بشكل جيد ، فتجد نفسك أمام الاحتمالين وكلاهما وارد ، فربما يكون المال الذي أرسله عثمان لربيبه في مصر رشوة لصد معارضته وربما تكون صدقته له ليعينه بها أو ليتصدق بها بدوره على فقراء المسلمين ، وربما تكون رسالة قتل الثائرين العائدين إلى مصر قد كتبها عثمان أو زورها عليه أحد بطانته (مروان بن الحكم) ، وغيرها من الازدواجات المحتملة التي تقبل دوماً التأويل.

- حتى يحتدم النزال بين فريقين وتختلف الرؤى من جماعة لأخرى أو بالأحرى بين شخص وآخر ، فيُدلي كلٌ بدلوه من التُهم والإشاعات دونما احقاق ، وينساق عوام الفكر وضالته كانصياع المرقوق للراقِ ، ويستكبر المُتحكِّم ويستهتر المُحْتكِم ، فتغدوا الفتنة ناراً تسوقها الرياح للهشيم ، فينزوي العقل ويفقد الحق أهله.

- انغمست فعلاً في اشتعال الأحداث الأخيرة للرواية وتلاحقت عيني بين الصفحات تستعجل النهاية ، ورغم ما يعنيه هذا لي من أني استمتع حقاً بما أقرأه إلا أن الوقائع كانت حزينة ومخزية ومخيفه واستوعبت لحظتها مدى صحة وعمق الإقرار القرآني بأن (الفتنة أشد من القتل) لأنها ببساطة تستدعي مزيداً من القتل والفتك والخزي الأعمى وكأن المفتونون (صم بكم عمي لا يعقلون ولا يرجعون).

- وفي الختام الرواية كانت مملة في بعض المواضع وتحولت في نهايتها إلى غاية في الإمتاع ، واعتقد أني سألحقها بقراءة كتاب الفتنة الكبرى في جزءيه (عثمان ، علي وبنوه) لـ طه حسين.