الاثنين، 13 سبتمبر 2021

بعض الخواطر على هامش كتاب "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" لمحمد ناصر الدين الألباني


كُتيّبٌ صَغير الحَجمْ، عَظيم الأثرْ، لأهميةِ مَوضوعه، يُفَنِد مِن خِلالهِ الكاتب بُطلان وَكَذِب (قصة الغرانيق)، وقدْ اعتمدَ المُؤلِف جزاه الله خيراً أُسلوب بَسيط ومُباشر في تَفنيد القِصة، بأن أوردَ كل الروايات التي جاءت فيها هذه القصة، ثم بيَّن ضَعف إسنادهِا، ثم بُطلان مَتنْها، ثم حاجّ إثنين من علماء الحديث في رأيهما، أحدهما قوّاه والأخر أنكره. 

وأسلوب هذا الكتاب عظيم كذلك من حيث إيراد معظم التساؤلات والمخاوف التي خَطَرت على فكري، كفرضية صحة هذه القصة، وهو أسلوب محمود جداً وخاصة أنني أعُاني في معظم قراءاتي أو حتى نقاشاتي العقائدية من ملمح (الأيمان مقابل العقل) وهو أسلوب غير مُقنِع ولا تجد من خلاله إجابات واضحة لتساؤلاتك. 

تثير هذه القصة في داخلي شجون كثيرة، اصطدمت بها في ثلاث مراحل عُمرية مُختلِفة، واختَلَف تلقيها باختلاف المرحلة : 

أولاً - في مرحلة المراهقة (في ختام القرن المنصرم) انقبض قلبي ضيقاً وشكاً وحرجاً عند مُصادفة هذه الواقعة الشائكة العجيبة وغيرها الكثير، في المنتديات المعنية بالشبهات والرد عليها، وغرف دردشة الـ (PalTalk) والنقاشات الحادة الساذجة، ومحاضرات مقارنة الأديان وخلافة، وهي فترة طفولية يَظنُ فيها المراهق أنه حَصَّل ثلاثة أرباع العلم ولم يتبقى له سوى ربع أخير، فليُنهيهِ سريعاً، وللأسف فإن العلوم الدينية في معظمها صعب المراس على مرتاديها فما بالكم بغيرهم، فضلاً عن الدور السقيم الذي لعبه بعض رجال الدين والدعاة في الأزمنة الأخيرة.

ثانياً - بعد التخرج من الجامعة (في العقد الأول من هذا القرن) وقد تنوعت قراءاتي قليلاً وامتدت للفلسفة والأدب، تجد نفسك تتلقف الأفكار بالجملة، ربما لتُردد بعضها كأنك اهتديت لها من بين ثنايا عقلك، وكأنها أفكار جديدة فلابد أن تكون لامعة وشيقة، وحبذا لو كانت نقدية (أو ذات لمحة تحررية)، بغض النظر عن تأصيلها أو تناولها من جميع جوانبها، فهي حالة ذهنية تؤدي وظيفة واحدة، وهي إضفاء شيء من العمق على أي كلام تافه تهرف به، وربما يكون ذلك مشفوعاً، لحداثة العهدِ وصِغَر السن وضَعف التلقي، إلا أنك لا تدرك سُخف ذلك إلا بعدما تتجاوز تلك المرحلة لما يليها. 

ومثالاً لهذه الأفكار فيما أذكر، ما ورد ببعض الكتب والروايات لكتاب مشهورين، من أن بعض الأسماء التي عُرف بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان (كثُّم بن عبد اللات)، وهكذا قصة الغرانيق، ومثلها قصة إقدام النبي على الانتحار، أو محاولة اغتيال بعض الصحابة له، وغيرها الكثير من الحوادث التي تُلقى دون ذكر مَصدر أو مصدر مُجهّل لا تعرف كيف تتعقبه، أو تلقى في سياق خبيث.

ولي هنا ملمحان انتبهت لهما بعد ذلك؛ أولهما تساؤل، ما هي الفائدة من إيراد هذا الغُثاء في رواية ما، فهي على أعلى تقدير هوامش لقوام عقائدي وفكري مُكتمل، وثانيهما، شُعورٌ دفين بأن هذه الحوادث (المُعادُ تصديرها مِراراً) تُبثُ على سبيل الكِبِرِ والغرور الفكري (ولا أقول المؤامرة فهي نظرية سطحية)، وكأن هؤلاء الأُدباء والفلاسفة على علو شأنهم وسعة اطلاعهم، على ذات خُلُق ذلك المراهق الذي يُردد أفكار مُتمردة أو شبهات رنانة ليَشُعر بعمقِ فِكرهِ، ولكنهم أذكى منه قليلاً، فهم يوردون الفكرة ضمن سياق واسع، ثم يضعون لك مصدر مُجهَل، ثم تسأله عن غايتهِ في إيراد هذه الفكرة، فيكتسي لك بهالة من جلال المعرفة ويقول لك "أنا رب السؤال؟ أُحرك لكم المياه الراكدة؟ وأثير فيكم ملكات التفكر والتعقل؟ ثم يلومك عن عدم اتباع السياق، وعدم الرجوع للمصادر" (مش تبقى تبص على المصادر). 

ثالثاً - في لحظتنا الحاضرة، أظنها وأتمناها خطوة في طريق لا ينقطع للنضوج، لحظة تتنبه فيها لتغيُر أفكارك وقناعاتك بشكل مستمر، بل وبذائقتك الفنية، وطريقة لبسك، وما تسمعه من موسيقى، لحظة تدرك فيها مواقف الغرور التي انتابتك ماضياً، عندما رددت أفكاراً ولم تبحث فيها، أفكاراً ظننت أنها نهائية مُطلقة لا شية فيها، مَجدّت أشخاصاً وكرهت أشخاصاً لأسباب غير موضوعية، لحظة تنوع أخرى تتمنى فيها قراءة ريتشارد دوكينز أو محمد ناصر الدين الألباني بموضوعية.