ولا شك أن تلك الحقبة التي شهدت حياة غاندي كانت عصيبة على الهند كمثيلاتها من الأمم التي كانت تتسارع على إستنزافها الدول العظمي ، كما أن الهند بطبيعة الحال ماكانت لِعُمرها - بإستثناء ما قد يدْخِرهُ التاريخ - أُمة واحدة بالمعنى التي تُحققة كثيراً من الدول حيث أنها تَحوى تَشكيلاً مُختلفاً من الأعراق والديانات واللُغات وخُصوصاً حين تَترامى أراضيها وطبقاتها على إتساع رقِعتها ، وكان لذلك كبير الأثر أن تكون النزعة الروحية والدينية هيا الملجأ الذي تُحمى من أجلهِ الألسِنة وتُلهبْ فى سبيلة العقول وما تتصِف به من سُبة التمييز الطبقي.
-(مواقف حياتيه)
-
· عاد غاندي إلى الهند ووجد نفسه محامياً يسعى ليتقاضى أضعاف ما يتقاضاه زملاؤة المحليين إلا أنه واجه مشكلة جادة وهي أنه لم يدرس القانون الهندي ولم يعرف أي شئ عن سير العمل في مختلف جهات القضاء ، وكانت أولي تجاربة في العمل كمحامي مُخزية أدت به الى الخروج مهرولاً من قاعة المحكمة بعد أن سخر القاضي منه ورد أتعابه إلى الموكل وطلب منه توكيل غيره ولم يعرف غاندي الطريق الذي سيسلكه في مقتبل حياته العملية إلا أن جاءته فرصة ليسافر إلى جنوب إفريقيا ليتابع سير العمل علي قضية مقامه لأحد كبار التجار الهنود هناك ولم يتردد وسافر دون أن يدري ماذا سيعمل تحديداً لإنجاز مهمته.
-
· واجه غاندي في رحلته إلى جنوب إفريقياً ثم إلى مختلف المقاطعات هناك ألواناً عديدة من التفرقة العنصرية والمواقف المهينة لكل هندي وخصوصاً فيما إشتهر به الهنود في ذلك الوقت من حط كرامة بعضهم مقابل جني الأموال ، وكان دائم المطالبة بحقه في المعاملة الموقرة وعدم التعدي عليه بدعوى أنه ملون (هندي) ، ولكنه في هذا الشأن كان يحاول دائماً الإلتفات عن كل تلك الإهانات ليصل إلى مسعاه من الإحترام والتقدير عازماً عن عدم إتخاذ أى إجراءات قانونية تجاه المُعتدين عليه من قبيل السلام الداخلي ولأن تلك الإجراءات كانت لن تؤتي ثماراً في هذا الشأن ، حتى أنه في العمل المنوط به أداؤه في جنوب إفريقيا فقد عمل على إنهاؤه تحكيماً بين الطرفين ، مُعتبراً أن عمل المحامي لن يجانب الحق والصواب إلا بعد أن يبذل كافة المساعي لحل النزاعات ودياً دون اللجوء للمحاكم معتبراً ان حتى مثل هذا السبيل لن يضيره على صعيد المادة بل سيضيف إليه قلب وروح نقية ، ونجح عمله في جنوب إفريقيا وحاز على ذلك كل التقدير.
-
· وفي مجال العلاقات والصداقات لم يكن غاندي يحزن أو يغضب من المحاولات العديدة التي حاولها معه أصدقاؤه المسيحيين ليؤمن بالمسيح شفيعاً له مخلصاً للبشرية وأنه لا سبيل لدخول الجنه إلى بتقبُله هذا المعتنق الديني – وكذلك حاول المسلمون وغيرهم من الأصدقاء – ولم يكن غاندي في هذا الوقت يعرف حتى عن الهندوسية ذاتها الكثير ، فَحمد لأصقاؤه هذا المسعى وإستغل شَغفهُ في التعرف أكثر على الهندوسية وكافة الديانات التي كان يحترمها جميعاً لأنها تَحُض على الحق والخير ، بل يرى أنه من واجب كل مؤمن أى يدرس الديانات الأخرى ويأخذ منها ما يتفق وعقيدته وكثيراً ما سيجد إتفاقاً ويتجنب ما تنهاه عقيدته فيصبح بذلك مؤمناً قوياً في إيمانه متبصراً بعقائد غيره محترماً لها وخصوصاً أن الديانات جميعها في أصلها مردها إلى الخالق العظيم.
-
· إلا أن غاندي لم يغادر جنوب إفريقيا فور إنتهاؤه من عمله وذلك إذعاناً منه لرغبات العمال الهنود الذين طلبوا منه الوقوف بجانبهم في مآسيهم ومظالمهم ولم يضن عليهم بوقته وجهده وبدأت مسيرة كفاحة في جنوب إفريقيا وبدأت شهرته على صعيد الكفاح السلمي والإعتصامات المدنية تتسع وتترامى أطرافها وكان غاندي في هذا الشأن يعتمد إعتماداً أساسياً على مبدأ البساطة في الحياة وأخذ يعتمد على ذاته ويميل إلى العمل اليدوي لتحقيق الإكتفاء في مختلف النواحي حتى أصبح قدوة لجميع أتباعه.
--
· وفي فتره ما تفشى فيها الطاعون وسط الجاليه الهندية أخذ غاندي يُكثِف كفاحه ومساعيه موقناً أنه بقدر ما كان يجب عليه رفع المظالم والمطالبه بحقوقهم بقدر ما كان يجب عليه والإخرين إبراء أنفسهم من المساوئ والأدران التي تحتل نفوسهم وعاداتهم وكان ذلك فيما إشتهر به الهنود من قلة إهتماماتهم بنظافة بيوتهم وبعض العادات السيئة ، ورأى في هذا المسعى أن المُصلِح لن يسلم في كفاحة من الصد والعناء وربما الإضطهاد ولذلك فعليهم دائماً أن يتحلوا بالحق والعزيمة والصبر طالما كان إلاصلاح هذا لوجه الله والإنسانية وسوف يؤتي صبره وعناؤه خيراً بعد ذلك.
-
· وعندما حان الوقت لعودته إلى الهند - بعد قِسط لا بأس به من الإصلاحات في الأحوال المعيشية والقوانين التي تنطبق على الجاليات المضطهده – إنعقدت المؤتمرات لتوديعه وجمعوا له كميات من الذهب والفضة والأموال شكراً لمساعيه ، إلا أنه تقبلها بقلب سقيم فليست الأموال هي الجزاء من خدمة الناس وليس هذا ما يُربي عليه أهل بيته ، وفي الوقت الذي يزداد فيه حاله بساطة على بساطة ويستغنى هو وأهله عن كماليات الحياة لن يكون من السهل رفض تلك الهدايا ولن يكون في مقدوره كذلك قبولها فأودع تلك الهدايا في ودائع إستثمارية وأوصى بها بعض زعماء الجاليات ليستوثقوا من خدمة الجاليات من ريعها ، وفي هذا الشأن خاض جدال كبير مع زوجته التي كانت تعارضه التصرف إلى أن إقتنعت برأيه قانعه بما لديهم من سُبل الزهد ثم عادوا إلى الهند.
-
· وبالمخالفة لمقدرات عصرنا الحالي كان موهنداس غاندي فائق الإستعداد والقدرة على التفاعل والتأثر والمشاركة في أي محنة تخص مجموعة من الناس وكانت عزيمته قوية في التنقل وعدم الإستقرار في مكان إلا بالقدر الذي يرعى فيه مصالح الناس ويرد إليهم حقوقهم عن طريق الكفاح السلمي ، ورأى أنه في سبيل تحقيق الكفاح السلمي المنزه عن أي عنف لابد أن يعيش الناس حد الكفاف والإكتفاء الذاتي فأخذ ينشئ نماذج لتجمعات إنسانية تكون معيناً لهم في التصدي لظالميهم دون اللجوء إلى إستجداء المساعدات من القادرين ، وكان يميل إلى تعلُم الحِرفْ اليدوية - حيث يرى أن الآلات تَستعبد الإنسان وأن عليه صنع كل ما يحتاج إليه بيديه - واللجوء إلى حياة التبتل والزهد عن مشتهيات الحياة.
-
-
· وتعرضت حركته السلمية لإنتقادات لازعة بأنها لا تجدي نفعاً كونها سلبية ، وإن كنت أرى ناقداً أن الساتياجراها تعتمد في المقام الأول على إستجداء روح العطف والحنو في القلوب الظالمة وأن هذا لا يرد مظالم بل أن غاندي تعرض في كثير من المواقف في كفاحه إلى توريط نفسه وأتباعه في قسوه تضاف إلى الظلم الواقع عليهم مسبقاً وأن الحركة السلمية لابد لها - بجانب الإكتفاء الذاتي والكفاف الذي إتبعه غاندي – من قوة وعزيمة تُرَدْ بها المظالم ، غير أن غاندي يرى أن حركته تُجبر الظالم بشكل سلمي على الرفق بالمظلوم لما بها من القوة المنبعثة من الحق التي تؤتي ثمارها إذا ما إهتدى اليها الإنسان عن طريق الحق وخلوه من أي كراهية حتى تجاه المعتدين ، وجدير بالذكر أن دعوة الساتياجراها دعوه تستحق الإشادة وإن كانت لا تُقبل كلها ولا تُرفض كلها ، ويرى عباس محمود العقاد أن الساتياجراها يمكن أن تكون تطرف في السلم ( فالعدوان ممنوع ورد العدوان حق والصفح عند المقدرة جائز وهو أقرب إلى الخير ) وهو ما تميز به التشريع الإسلامي كوسط بين نقيضين.
-
· وكان غاندي يؤمن بتناسخ الأرواح كما هو وارد في الديانات البرهمية إلا أنه كان يعارض عقيدة التأيُمْ ( حرق الزوجة مع زوجها المتوفي ) وهو ما لاقى عنه إعتراضات شديدة في أوساط المتعصبين للبرهمية – وكان يعزي قوله أنه لوجب بصحة ذلك المُعتقد حرق الزوج مع زوجته المتوفاه ، وكان يرى أنه من الأصلح أن تتخلص الهند من عادة زواج الأطفال ويرى في الزواج ذاته علاقة روحية لابد أن تتخلص من أدران العلاقات الجسدية (الموكشا) إلا بغرض النسل ، وكان ذلك يستحيل على قلوب الشباب من متبعيه وإن كان لم يقل في نظرهم بل أعدوه من مرتبه الأنبياء المُخلصين لدعواهم – وأرى بطبيعة الحال إختلافاً شديداً مع تلك الرؤيا ومضمون الإختلاف يرجع إلى أسباب عقائدية ، ويكفيني معها نقده بشأن الإعتقاد بها وليس لإغفاله حقه ونقاؤه في كثير من المناحي الأخرى وخصوصاُ السعى وراء الروح في مقابل المادة ، وإذا كانت لغاندي متناقضات كثيرة ذُكرت في أكثر من موضع فأن مرد تلك المتناقضات كلها إلى النفس البشرية وإن كانت تصبوا إلى التطهر .
-
· وهكذا كان غاندي يرقى إلى مرتبه النبوه في قلوب البراهمة الهنود وغيرهم من جميع الطبقات والأديان فصار قديساً غير مشكوك في إخلاص دعوته إلى إتباع الحق والإلتفات عن موبقات التمييز بين الهندوس والمسلمين وهي من كبرى مشكلات الهند في ذلك الوقت ، وإن كان لابد للإنسان من سياسة للنبذ فلابد ان تكون لنبذ كافة سُبلْ التفريق والظلم والإعتداء على حقوق الآخرين وسلبهم مكانتهم بغض النظر عن جنسهم أو معتقداتهم ، وتحمل في نشر هذه الدعوة طوال حياته جميع الأخطار التي حَدْقت به ومن معه وسجن على آثر كفاحة هذا أكثر من مرة ، وكان نموذج جلي على إمكانيه ممارسة السياسة من خلال أخلاق الدين أو المثل العليا وإحقاق الحق وتحري الخير
-
-
http://www.youtube.com/watch?v=HCbWH0TC870
المراجع:
* كتاب في سبيل الحق (قصة حياتي) لغاندي بترجمة محمد سامي عاشور
* كتاب روح عظيم (المهاتما غاندي) لعباس محمود العقاد
ملحوظات :
*الموضوع تلخصيصاً ذاتياً وعليه فإن معظم المادة العلمية الواردة فيه واردة نقلاً وإقتباساً ، والمراد منها إجمال الفائدة للتذكرة وليس لأغراض النشر
* مع حفظ كافة حقوق الملكية الفكرية - الخاص بالمادة العلمية أو الصور أو الروابط المرفقة بالنص - لأصحابها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق