الاثنين، 25 ديسمبر 2023

قراءة في كتاب غاية الأرب في رحلة الطلب

 

قراءة في كتاب غاية الأرب في رحلة الطلب



شاهدت بودكاست أثير لشيخ جميل السمت باسم الوجه يحكي عن الأزهر ورحلة طلبه للعلم، وكانت حلقة جميلة رائقة، وتصادفت عقبها بكتابه هذا، فقرأت منه ثلثه الأخير فيما يهمني حالياً وذلك ملخص قرائتي..

غاية الأرب في رحلة الطلب، كتاب يرصد من خلاله الشيخ / إبراهيم المالي (الفاهم إبراهيم أحمد عمر محمد سليمان صه الإفريقي الفلاني المالي - الشهير بألفا معاذ أحمد عمر) ترجمات الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم، ومشاربهم وتأثيرهم عليه، ويرصد من خلالهم رحلة طلبه للعلم في أرجاء الأرض من العمق الإفريقي إلى المشرق والمغرب العربي، وأثناء وجوده في مصر طالباً في الأزهر الشريف طلب منه أحد شيوخه (الدر الحادي عشر) كتابة كلمة بخصوص الأحداث السياسية الجارية وقتها فكان كتاب فرعي: إبراء الذمة في نصح الأمة، الثورة العظيمة والتغيير الحقيقي. ضمن الكتاب الأصلي، وقد تناوله على الوجه التالي:

مقدمة في بيان معنى الحكم والسياسة، غاية السياسة على منهج آدم ومن صلح من بنوه نيابة عن الله في إعمار الأرض وإصلاحها، واجتناب السياسة على منهج إبليس ومن تبعه من جنده بالكذب والإفساد في الأرض.

باب في بيان معنى الثورة والتغيير الحقيقي، فالثورة هي التحرك والتحول من حال إلى حال، فهي محمودة إذا كان التغيير من حال الإفساد إلى الإصلاح، ومذمومة إذا كان التغيير من الصلاح إلى الإفساد، أو من تغيير السيء بالأسوأ، والتغيير يكون على مراحل ثلاث هي: (1) تغيير الأفراد أولاً (2) ثم تغيير الأسرة عبر اضطلاع كل بدوره ومسؤولياته فرب الأسرة ضمن ما كلف به مطالب بالرحمة، والمرأة ضمن ما كلفت به مطالبة بالطاعة، والأولاد ضمن ما كلفوا به مطالبون بالبر والبر هو الأثر الناتج عن اجتماع الرحمة والطاعة، (3) ثم أخيراً تغيير المجتمع ككل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الحقيقي غير المستهلك، أمراً بما تعارف عليه الناس من مصلحة كالعلم، والعمل، والصدق، والمحبة، والإخلاص، والتضحية، والرحمة، ونهي عما أنكروه الناس من كل مفسدة كالجهل، والبطالة، والكذب، والكراهية، والنفاق، والضعف ، والقسوة، ثم يأتي من بعد استيفاء ذلك الأمر بالصلاة، وموجبات الدين، كما أن إصلاح المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات وأدوار لا يجب التداخل بين هذه الأدوار وإلا فسد المطلوب، فالحاكم يأمر وينهي بقوة السنان، والعالم يأمر وينهي بقوة اللسان، والغني يأمر وينهي بقوة الدينار (المال)، ثم يشترك الجميع في الأمر والنهي بحسن الخلق وطيب السريرة.

باب في بيان معنى الفساد وأقسامه وذكر المفسدين في الأرض، والفساد هو الظلم والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وإلباس الحق بالباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه، فوجب على كل منا تحري مواضع الإصلاح والإفساد في خطاه.

باب في بيان معنى الشورى الإسلامية والديمقراطية الشيطانية، ورغم اتفاقهم في المعنى تقريباً إلا أنهما يختلفان في الجوهر من أن الشورى مرهونة باتفاق أهل الحل والعقد الصالحين على ما لا يخالف أوامر الخالق، أما أن الديمقراطية هي اتفاق عموم الناس على ما ارتضوه إطلاقاً حتى لو كان ما ارتضوه كان شراً محضا.

باب في ما يمر به العالم اليوم عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً، من انقسام العالم بين محور للإصلاح ومحور للإفساد، وهي الثنائية المتداولة بين البشر جميعاً وهى ثنائية الخير والشر، وأنا أراها ثنائية نسبية بين البشر، يتداخلها تزيين الشيطان للإنسان أعماله، فعسى ألا نكون من الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ثم خاتمة بعنوان هدى العباد لبيان فقه الجهاد، وهو كتاب أرسله لرئيس أحد الجماعات الإسلامية التي خرجت على الحكومة المالية وقتها، ينذره فيها لمعنى الجهاد وبيان فقهه، وقسمه لثلاث مباحث، الأول في معنى الجهاد وبيان من هم المجاهدون في العالم الإسلامي اليوم، وبين الكاتب معناه بأنه السعي لإعلاء كلمة الله وبأن لنا في رسول الله أسوة حسنة في فقه الجهاد، بما أوضحه من أن جهاد السيف هو الجهاد الأصغر وجهاد النفس هو الجهاد الأعظم وهو الأشق والأكثر ثواباً، وقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بمس مراحل للجهاد (1) الجهاد بالكلمة المجردة وهي توحيد الله ومكارم الأخلاق. (2) الجهاد بالهجرة اتقاءاً للإفناء. (3) جهاد المتاركة والموادعة. (4) جهاد الدفع بالدفاع عن النفس رداً للاعتداء. (5) جهاد الطلب بتبليغ الدعوة للعالمين. وخصص المبحث الثاني في مشكلة الخوارج وفهمهم الخاطئ لحاكمية دين الله، وتكفيرهم سيدنا علي بن أبي طالب لرضاؤه بالتحكيم بينه وبين معاوية، ومن هنا بدأت مسألة الخروج على الحاكم فأجازتها الخوارج ومنعها أهل السنة والجماعة، وأورد أدله أهل السنة والجماعة في هذا الشأن. والمبحث الثالث والأخير كان نصيحة عامة لكيفية الخروج من هذه الفتنة التي لا تبقى ولا تذر.


الاثنين، 15 مايو 2023



مثنوي مولانا جلال الدين الرومي، عمل أدبي روحاني متعدي، لا يمكن أن تقف على معانيه ومراميه حرفياً، وأظن أنه ليس بدعاً من الكتابات الصوفية، فهي في معظمها، قائمة على التجربة الروحية الشخصية لأصحابها، فمنهم من صادق الله فصدقه وأكرمه، ومنهم من شطح لا نعلم عن شطحته سوى الظاهر منها والله أعلم ببواطن الأمور وظواهرها.

وعلى هذا فإن المثنوي على قدر كبير من العمق، سواءً من حيث الاسترسال في بعض المواطن، أو التكثيف بالرمز في مواطن أخرى، وكذلك فهو عامر بضرب المثل، فيجب أن يُقرأ بتأني، فأثناء قراءته توقفت أحياناً عن بعض المعاني التي استغلق عليّ فهمها، وأحياناً أخرى كان المعنى واضحاً سلساً متوافق مع النصوص الشرعية وفهمنا العام لها، وفي قرائتي الأولى للمجلد الأول من المثنوي تجاوزت عن كثير من المعاني التي تخالف المستقر أو تسترسل في أحداثه دون سند، فمن أين ستأتي بالمصادر وتقارن بينها، إلا أن تذهب فتحقق المخطوط الأصلي بلغته، ويمكن أن أعزي بعض التلغيز في الترجمة ذاتها، مع كامل تقديري لمترجم ومحقق ذلك العمل، فلا شك أن عملية الترجمة من أشق الفنون، وكذلك في المشهد التاريخي والمعرفي الذي كتب في ظلاله المثنوي.

ويجب الإشاره إلى أن مبلغ طموحي في قراءة ذلك العمل في هذه المرحلة هي، الوقوف بشكل عام على المضمون الروحي له ومقارباته المختلفة للنصوص الظاهرية على قدر تحصيلي لها. فيالله أنعم وأكرم وفض علينا من بركاتك. 

الأحد، 11 ديسمبر 2022

واقعة الجِرمُ المُعلق


واقعة الجِرمُ المُعلق


الحياة سهلة وبسيطة - Obama Elmasry - The Sun rises every day


صباح يوم أحد الذي وافق الحادي عشر من الشهر الثاني عشر لعام إثنين وعشرون وألفين، ورغم كل ما يواجه البشرية من مخاوف وحروب وأهوال على كل الأصعدة، وقعت الظاهرة، استمرت لبضع دقائق، لم يكن في المكان سواي، أدعوا بهذه الكلمات أيا ً من كان قد شهدها في أي مكان إلى التواصل معي لتبادل المعلومات وتوثيقها، فمن غير الوارد أن تكون ظاهرة بمثل هذا الوضوح والجلال قد وقعت ولم يلحظها أحد، أو يكون قد صورها أحدهم، والهواتف ذو الكاميرات لصيقة بأيدي الناس كأصابع اليد.

خيط ذهبي منحني، يصعد في السماء ببطيء شديد، لا تعرف حقا ً إذا كان واقعا ً ويتسحب للأفق فعلا ً، أم مجرد وهم بصري ضمن آلاف الأوهام حولنا، حاولت جاهدا ً حساب زمن تحركه في الأفق، ولم أستطع إلا أن ألحظ نمط ارتقاءه المتهادي.

لم يكن مجرد خيط، فقد تشكل بعد قليل جرم هائل تام الاستدارة، يتوهج ذهبا ً كلما ارتقى، ينظر إليك في تحدٍ جاد لدرجة أنك لا تستطيع النظر إليه أكثر من ثوان، إلا أن تخفض رأسك ليرتد عنك بصرك وهو حسير، فتكتشف أن ذلك التحدي متماشيا ً مع ما يرسله هذا الجرم من شعور وجل بالدفء والحياة.

أتعجب من الحشود التي بدأت تخرج لأشغالها من حولي، ولم يلفت نظرها أي شيء عجيب، ربما نظر إلي أحدهم متعجبا ً!!! متعجبا ً من أمري أنا، وجلستي ووجهي المشدوه، فاستوقفته.. هل ترى ما أرى حقا ً؟ فأجابني (الله يسهلك ياعم).

فأدركت أنه لم يلحظ ذلك القرص المشع المعلق فحسب، بل أنه لم يدرك كذلك سؤالي له، وعاجلني بالصد، فهل صادف وأن رأى أحدكم هذا القرص المعلق وهو يولد.

الاثنين، 13 سبتمبر 2021

بعض الخواطر على هامش كتاب "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" لمحمد ناصر الدين الألباني


كُتيّبٌ صَغير الحَجمْ، عَظيم الأثرْ، لأهميةِ مَوضوعه، يُفَنِد مِن خِلالهِ الكاتب بُطلان وَكَذِب (قصة الغرانيق)، وقدْ اعتمدَ المُؤلِف جزاه الله خيراً أُسلوب بَسيط ومُباشر في تَفنيد القِصة، بأن أوردَ كل الروايات التي جاءت فيها هذه القصة، ثم بيَّن ضَعف إسنادهِا، ثم بُطلان مَتنْها، ثم حاجّ إثنين من علماء الحديث في رأيهما، أحدهما قوّاه والأخر أنكره. 

وأسلوب هذا الكتاب عظيم كذلك من حيث إيراد معظم التساؤلات والمخاوف التي خَطَرت على فكري، كفرضية صحة هذه القصة، وهو أسلوب محمود جداً وخاصة أنني أعُاني في معظم قراءاتي أو حتى نقاشاتي العقائدية من ملمح (الأيمان مقابل العقل) وهو أسلوب غير مُقنِع ولا تجد من خلاله إجابات واضحة لتساؤلاتك. 

تثير هذه القصة في داخلي شجون كثيرة، اصطدمت بها في ثلاث مراحل عُمرية مُختلِفة، واختَلَف تلقيها باختلاف المرحلة : 

أولاً - في مرحلة المراهقة (في ختام القرن المنصرم) انقبض قلبي ضيقاً وشكاً وحرجاً عند مُصادفة هذه الواقعة الشائكة العجيبة وغيرها الكثير، في المنتديات المعنية بالشبهات والرد عليها، وغرف دردشة الـ (PalTalk) والنقاشات الحادة الساذجة، ومحاضرات مقارنة الأديان وخلافة، وهي فترة طفولية يَظنُ فيها المراهق أنه حَصَّل ثلاثة أرباع العلم ولم يتبقى له سوى ربع أخير، فليُنهيهِ سريعاً، وللأسف فإن العلوم الدينية في معظمها صعب المراس على مرتاديها فما بالكم بغيرهم، فضلاً عن الدور السقيم الذي لعبه بعض رجال الدين والدعاة في الأزمنة الأخيرة.

ثانياً - بعد التخرج من الجامعة (في العقد الأول من هذا القرن) وقد تنوعت قراءاتي قليلاً وامتدت للفلسفة والأدب، تجد نفسك تتلقف الأفكار بالجملة، ربما لتُردد بعضها كأنك اهتديت لها من بين ثنايا عقلك، وكأنها أفكار جديدة فلابد أن تكون لامعة وشيقة، وحبذا لو كانت نقدية (أو ذات لمحة تحررية)، بغض النظر عن تأصيلها أو تناولها من جميع جوانبها، فهي حالة ذهنية تؤدي وظيفة واحدة، وهي إضفاء شيء من العمق على أي كلام تافه تهرف به، وربما يكون ذلك مشفوعاً، لحداثة العهدِ وصِغَر السن وضَعف التلقي، إلا أنك لا تدرك سُخف ذلك إلا بعدما تتجاوز تلك المرحلة لما يليها. 

ومثالاً لهذه الأفكار فيما أذكر، ما ورد ببعض الكتب والروايات لكتاب مشهورين، من أن بعض الأسماء التي عُرف بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان (كثُّم بن عبد اللات)، وهكذا قصة الغرانيق، ومثلها قصة إقدام النبي على الانتحار، أو محاولة اغتيال بعض الصحابة له، وغيرها الكثير من الحوادث التي تُلقى دون ذكر مَصدر أو مصدر مُجهّل لا تعرف كيف تتعقبه، أو تلقى في سياق خبيث.

ولي هنا ملمحان انتبهت لهما بعد ذلك؛ أولهما تساؤل، ما هي الفائدة من إيراد هذا الغُثاء في رواية ما، فهي على أعلى تقدير هوامش لقوام عقائدي وفكري مُكتمل، وثانيهما، شُعورٌ دفين بأن هذه الحوادث (المُعادُ تصديرها مِراراً) تُبثُ على سبيل الكِبِرِ والغرور الفكري (ولا أقول المؤامرة فهي نظرية سطحية)، وكأن هؤلاء الأُدباء والفلاسفة على علو شأنهم وسعة اطلاعهم، على ذات خُلُق ذلك المراهق الذي يُردد أفكار مُتمردة أو شبهات رنانة ليَشُعر بعمقِ فِكرهِ، ولكنهم أذكى منه قليلاً، فهم يوردون الفكرة ضمن سياق واسع، ثم يضعون لك مصدر مُجهَل، ثم تسأله عن غايتهِ في إيراد هذه الفكرة، فيكتسي لك بهالة من جلال المعرفة ويقول لك "أنا رب السؤال؟ أُحرك لكم المياه الراكدة؟ وأثير فيكم ملكات التفكر والتعقل؟ ثم يلومك عن عدم اتباع السياق، وعدم الرجوع للمصادر" (مش تبقى تبص على المصادر). 

ثالثاً - في لحظتنا الحاضرة، أظنها وأتمناها خطوة في طريق لا ينقطع للنضوج، لحظة تتنبه فيها لتغيُر أفكارك وقناعاتك بشكل مستمر، بل وبذائقتك الفنية، وطريقة لبسك، وما تسمعه من موسيقى، لحظة تدرك فيها مواقف الغرور التي انتابتك ماضياً، عندما رددت أفكاراً ولم تبحث فيها، أفكاراً ظننت أنها نهائية مُطلقة لا شية فيها، مَجدّت أشخاصاً وكرهت أشخاصاً لأسباب غير موضوعية، لحظة تنوع أخرى تتمنى فيها قراءة ريتشارد دوكينز أو محمد ناصر الدين الألباني بموضوعية.

الثلاثاء، 7 أبريل 2020

چان چاك روسُّو والكلب البلدي زيمباوي



چان چاك روسُّو والكلب البلدي زيمباوي


في تجربة لتنويع قراءاتي بما يتماشى مع الموضوعات التي تهمني، قررت أن أرجع بالزمن قليلا لكتابات چان چاك رسُّو، في محاولة للاطلاع على التأصيل الثقافي للحضارة الأوروبية، فقررت أن أبدأ بكتاب أصل التفاوت بين الناس ترجمة عادل زعيتر، أفهم جيداً أنني لا أقرأ الكتاب بلُغتهِ الأصلية وأن الترجمة لها أن تُثري العمل أو أن تَهوى بهِ أو أن تتأرجح بين هذا وذاك، ترجمة هذا الكتاب غاية في الصعوبة والالتفاف والغموض، يُكثِر المُترجِم من استخدام نفي النفي وتكثيف المصطلحات للدرجة التي فكرت كثيراً أن أتخلص من الكتاب، فضلاً على أن المقدمة التي صدّرها المؤلف تحت عنوان (إلى جمهورية چينيڤ)، رسالة تمتلئ بالمبالغة والتكلُف، يستعرض خلالها فضائل حكومة چينيڤ وشعبها، بشكل يبلغ حد التملق والنفاق، وكأنها يوتوبيا أوروبية محاصرة من قبائل الغزاة، مما زاد الكتاب مللا.

وفي اللحظة التي قررت فيها عدم استكمال الكتاب، تراءت لي أول فكرة واضحة من موضوع هذا الكتاب، وهي (أن منبع التفاوت بين الناس يرجع إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان، والصناعة التي يتبناها) وهي فكرة تتجلى في الحضارة والتمدين التي توسَم وهماً في زماننها بالرفعة والتطور في حين أنها تنطوي على قدر كبير من الحِطّة والدُنوّْ وتأخُر الفكر وخصائِص الجسد عن الإنسان الأول.

وليس أدنى من نقل هذه الفكرة كما وردت نصاً في الكتاب للتفكر فيها ثم التعليق عليها:

" إن التفاوت المتناهي في طراز الحياة، وفرط البطالة في أُناس، وفرط العمل في الآخرين، وسهولة تهييج شهواتنا وملاذِّنا، والأطعمة المبتغاه كثيراً من قِبل الأغنياء فتغذيهم بالعُصارات المسببة للحرارة وترهقهم بسوء الهضم، وأغذية الفقراء السيئة التي تعوزهم في الغالب أيضاً، والتي يحملهم عدمها إلى إثقال معدتهم بشره عندما تلوح الفرصة، والسهرات، وأنواع الدعارات، وعدم الاعتدال في تبادل ضروب الأهواء، ومتاعب النفس وضناها، وما لا يُحصى له عدٌّ من الكروب والرزايا التي يُشعَر بها في جميع الأحوال، والتي تضعف بها النفوس ضعفاً مستمراً، دلائل مشؤومة على كون معظم أمراضنا من صُنعنا الخاص، فكان يمكننا اجتناب جميعها تقريباً بمحافظتنا على (طراز العيش البسيط النمطي) الذي كانت الطبيعة قد فرضته علينا، وإذا كانت الطبيعة قد أعدتنا لنكون أصحاء فإنني أجرؤ على القول بأن حال (التفكير مناقضة للطبيعة)، وأن الإنسان الذي يفكر حيوان فاسد، وإذا ما نظر في نظام الهمج الصالح، نظام هؤلاء الذين لم نضيعهم بمشروباتنا الروحية، وإذا ما علم أنهم لا يعرفون من الأمراض غير الجروح والمشيب تقريباً.
وبما أن الإنسان خاضع لقليل من علل الأمراض في حال الطبيعة فإنه لا يكون محتاجاً إلى علاجات إذن، وأقل من ذلك احتياحه إلى أطباء، ولا يكون النوع البشري أسوأ من جميع الحيوانات الأخرى في هذه الناحية، ومن السهل أن يُعرف من الصائدين عن مصادفتهم حيوانات عليلة كثيرة في أثناء صيدهم أولا، وكثير من الصائدين من يجدون بين طرائدهم حيوانات أُصيبت بجروح بليغة فاندملت جيداً،  وحيوانات كُسرت فيها عظام، أو قطعت فيها أعضاء، فعادت إلى حالها من غير أن يكون لها جراح سوى الزمن، ومن غير أن تتخذ من النظام سوى حياتها العادية فشفيت تماماً من دون أن تؤلم ببضع، أو أن تُسَّم بعقاقير، وهذا يجعله في وضع أفضل من وضعنا غالباً.
والطبيعة تعامل جميع الحيوانات المتروكة لعنايتها باستحباب يدل على درجة اغتباطها بهذا الحق، فللفرس والهر والثور وللحمار أيضاً في الغالب، قوام أكثر علوًّا، وبنية أشد قوة ومتانة وجلداً وبأساً في الغابات مما في بيوتنا، وذلك أنها تفقد نصف هذه المزايا عندما تصبح أهلية، فيمكن أن يقال إن كل اعتناء في حسن معاملة هذه الحيوانات وتغذيتها لا يؤدي إلى غير إفسادها، وقُلْ مثل هذا عن الإنسان، وذلك أنه عندما يصبح أنيساً وعبداً يصير ضعيفاً جبانا ذليلا، ومن شأن طراز عيشه الرغيد المخنث أن يوهن قوته وشجاعته، ولنضف إلى هذا وجود فرق بين الرجل الوحشي والرجل المتمدن أكثر مما بين الحيوان الوحشي والحيوان الأهلي، وذلك بما أن الطبيعة تعامل الإنسان والحيوان على السواء فإن ما يمنحه الإنسان نفسه من رغد أكثر مما يمنحه الحيوانات التي يؤنسها يعد أسباباً خاصة في انحطاطه أكثر من انحطاطها".

الله عليك ياحج چان.

وبمفهوم الارتباط، فإن هذه الفكرة تقارب (أولاً) قراءاتي الإلكترونية لمدونة كاتب لبناني شاب، يدعى (طوني صغبيني)، يدعوا فيها للانتباه جيداً من مقومات الحياة الحالية التي تغرقنا مُستعبَدين للاستهلاك والاعتمادية التامة للمُستعبِد صاحب رأس المال لصناعة متطلبات حياتنا ابتداءً من قوت يومنا مروراً بأخر إصدار للتليفون المحمول، في حين أن ما يرسمه لنا التاريخ زيفاً وبهتاناً بأن الحياة البدائية انحطاط وتدهور، والحقيقة أن المتمعن جيداً يجد هذه البدائية هي التي تقيم الإنسان وترعاه وتكسبه قوة وصلابة العيش والهناء، وقد رأيت ذلك بأم روحي في زيارتي لطور سيناء ورحلة ارتقاء قمة جبل كاترين.

(ثانياً) منذ صغري وأنا أتمنى تربية كلب ولم تتح لي الظروف حتى التفكير في ذلك، ولما أدركت أن الحياة تتسرب من تحت الأيام وعرضت عليَّ الفكرة مرة أخرى اقتنصتها قبل وأدها، وخُلاصة التجربة التي مازلت أخوضها أنني تبنيت كلب شارع على حافة الهلاك وهو في عُمر شهر، وبهذا أكون قد تمردت على عرف اقتناء كلب للحراسة او لسلالته العريقة وعيونه وشعره المستوردين من بلاد الثلج، وفي نفس الوقت قطعت الدعوى البلهاء على معظم المقربين بمقولتهم (جايبين كلب تأكلوه وتطعّموه بالشيء الفلاني، ما الفقرا حواليكم في كل حتة)، في حين أنني (وكانت مفاجأة) شعرت بالإحراج الشديد عندما ذهبت لتطعيمه وسط أنواع الكلاب الزاهية، لأنتبه أن حتى التمرد يمكن أن يكون شكلياً ورداءً اجتماعياً مساوي لخيلاء ادعاء الارستقراطية (وفي الأخير كلنا فقراء) كما تقول زوجتي، التي أعانتني على تخطي هذا الإحراج شيئاً فشيئا.

الكلب يكبر سريعاً، متمرد وذو شخصية لافتة، ويفقدنا صبرنا سريعاً، في تحدي عجيب لفرض الرأي من كلانا، إلا أن هذه الشخصية سرعان ما تتواري حين يرى ضيفاً عابراً، لتتملكه حالة خوف تصاحبها عدوانية بطبيعة الحال، وعندما يرى الشارع كأنه على حافة الموت، الأمر الذي شعرت معه أنه ربما أكون قد أسأت له بتربيته في البيت الذي سيفقده صفاته الأساسية من الصلابة والقنص والمواجهة، ثم أتذكر أن المعادلة خاطئة فالشارع لا يمثل لهذا الجرو بيئة صالحة فنحن نراهم في معظم الأوقات مشردين معذبين حتى وإن كانوا أقوياء شرسين، فهي شراسة تولدها غريزة البقاء، وتقبل هذه القصة الإسقاط، فالشارع والبيوت التي تؤيينا ليست صالحة في معظمها لتنتج نفس إنسانية سوية، فكأنما نقايض مأكلنا بحبس أرواحنا، لندرك بعد ذلك أننا كذلك فقدنا مهارات الإنسان الأول.

الخميس، 6 فبراير 2020

سيد حجاب

سيد حجاب                            بوابة الشروق

رحلة شعرية عامرة تربوا على النصف قرن، رحلة شعرية خاصة جداً بما تتضمنه من مصطلحات فريدة ومشاعر بكر ومشاهد من قلب الطبيعة، طبيعة الفتى الذي نشأ على ضفاف بحيرة المنزلة، ليُنصِف الصياد والسمان والحمام والشبكة وجنية البحور، ويستبدل محدودية الرزق برحابة المعنى.


حبيبي عم سيد حجاب (رحمه الله رحمة واسعة) بطل طفولتي الخفي بامتياز، كلما أحببت عمل موسيقي كبرت لأعرف أنه كان فارس الكلمة فيه، بدءً من أغاني عفاف راضي المهدهدة لطفولة جيل الثمانينات، ثم إيمان الطوخي، وعلي الحجار، وتترات المسلسلات والفوازير التي شكلت وجدان المصريين جيل من بعد جيل.

أكثر ما أحزنني في مجموعة الدواوين التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في طبعة خاصة على هامش معرض كتاب ٢٠١٨، أنها صدرت مجزأءة وليست في ديوان واحد، واقتصرت فقط على الدواوين الشعرية، ولم تتضمن الأشعار الغنائية، على عكس ما تضمنته الأعمال الكاملة لصلاح چاهين، وفؤاد حداد.

أعجبتني جداً فكرة الإحالة لموقع الهيئة المصرية العامة للكتاب لسماع ديوانين بصوت سيد حجاب، أثروا التجربة الشعرية كثيراً.

في رمضان ٢٠١٩ على شاشة إحدى قنوات النيل المتخصصة، شرفنا بمتابعة برنامج يومي مزامن لوقت الإفطار يقدمه الشاعر شوقي حجاب الأخ الشقيق لعمنا سيد حجاب، واستمتعت كثيراً بالبساطة والتلقائية والتجربة الشعرية له، ولما قرأت دواوين سيد حجاب شعرت أن النشأة المشتركة لها كبير الأثر في تشكل تجربة الأخوين.


في مجموعة دواوين سيد حجاب، تطور ملحوظ متسق مع حياة حقيقية، الغريب فيها أنه أكثر من ذكر الليل والضلمة والغرق والموت في أولاها (صياد وجنية) ثم اختصر الحياة كاملة في مجموعة كلمات في الديوان الثاني (في العتمة) كلمايتي.. غنمايتي.. عصايتي.. آيتي.. رايتي.. سرايتي.. قمرايتي.. جمرايتي.. مرايتي.. تمرايتي.. منجايتي.. كمنجايتي.. رحياتي.. كلمايتي.. بدايتي.. دايتي.. مشايتي.. ربايتي.. كلمايتي.. غايتي.. نهايتي.. حفرايتي.



وفي الديوان الثالث (نص الطريق) نعى فيه الوردة والغربة والأحزان وفراق چاهين، وفي الرابع (أصوات) يعبر عن تجربة سفره وغربته على هامش أصوات الآلات الموسيقية، وفي الخامس (قبل الطوفان الجاي) طفح الكيل وتنبأ قبيل النبأ، وفي السادس (وسط الطوفان) كان الأمل والحسرة.

رصد الحزن والألم والموت في دواوين سيد حجاب ليست قتامة، وإنما إدراك لحقيقة الحياة، المليئة بالأمل وبفخر الأجداد الظاهر في الاستعانة بحوريس وإيزيس والتعدد الفكري والعقائدي للمصري على طول مشواره.

الخميس، 18 يوليو 2019

كحل وحبهان



رواية (كحل وحبهان)

عُمر طاهر هو عُمر طاهر، لن يمرر الحكاية دون استخدام مواد أطال البحث فيها فتلبسته، مواد متداولة بين الكافة ولكن طاهر يتناولها بالتحليل فيُضفي عليها شيئاً من روحه فتصير وكأنها من اكتشافه، فهذا محمد منير، وذاك سخان المصانع الحربية ذو الشمعات الست، والمدخنة بطربوش أبيض، ثم علي الحجار وهو يغني كلمات عصام عبد الله رحمه الله (وان قلتي وداع أنقسم اتنين، فارس متمرد ع القوانين)، ثم العشق الأسمى لتفاصيل البيت المصري بكل زخمه، فهذا العمل يُعد سيرة ذاتية للطعم واللون والرائحة، على غرار الطول واللون والحرية.

فإذاعة الاغاني، وصنايعية مصر، ليست مجرد كتب أصدرها وانتهى أثرها في الكاتب بالنشر، وإنما تعد تجربة حياة لعمر طاهر، ولكثير من جيله، ويخيل لي أنني لو قابلت الكاتب ودار بيننا حوار، لن أبذل كثيراً من الجهد في البحث عن مشتركات للحديث؛ الأغاني والألحان العبقرية، والصنايعية وما صنعوه، ومشكل مربى قها، والمسقعة البايتة، وروائح الذكريات تكفي.

عيب الرواية أنها سردية أكثر من اللازم، والأحداث فيها ثانوية وهامشية، والحوارات مقتضبة، الرواية انحازت فقط للوصف المحض وأسهبت فيه، 

ولكني لا أريد أن أُنهي عرضي بمَثلبة، فقد استمتعت بالقراءة، وهي غاية معتبرة عندي، حتى السرد لم يكن مملاً، ونتج عنه مشاهد عبقرية، تستمد العبقرية من اشتراك معظم البيوت المصرية في مثيلاتها.

الكحل تابل النظرة، والحبهان سحر وقور، غموض التجربة الجذاب، والست مديحة كامل يجتمع على حسنها الكحل والحبهان.









الجمعة، 7 يونيو 2019

صنايعية مصر

كتاب 
صنايعية مصر


(صنايعي).. كلمة ذات سمعة سيئة، لمحترفي التنميط والتعميم (Stereotyping)، مدلولها عدم الإتقان وعدم الالتزام وغيرها من الأفكار السلبية، يرتد (الكاتب) بهذه الكلمة إلى أصلها الإيجابي، ويتناول من خلالها (صنايعية) على أعلى مستوى من المبادرة والابتكار والابداع والالتزام بالقواعد بل وبتأسيسها، كل في مجاله، وإن كانوا على مستوى أقل من الشهرة، بالمقارنة مع غيرهم من مشاهير المجتمع الوهميين، لذلك يعتبر هذا الكتاب عرفاناً لجهود هؤلاء الصنايعية.

يعتبر الكتاب من جهة أخرى حلقة وصل حقيقية بين جيل الآباء والأجداد من القرن العشرين، وأحفادهم في القرن الحالي، والهوة متسعة جداً بينهما، وأظن الكتاب قادر على تقليل هذه الفجوة الزمنية، وخاصة بأسلوب عمر طاهر الصادق المنساب، والخالي من مظاهر المخايلة والزيف، ويعتبر كذلك مصدر أو سيرة ذاتية مصغرة لشخصيات في منتهى الجمال والأهمية.

أعجبتني طريقة عمر طاهر في ترسيخ المعلومات التي يقدما بمنتهى الذكاء، أولاً يحدثك عن صفة شخصية للكاتب أو موقف تعرض له، ثم يستعرض جهودة العملية ومساهمته في صناعة مصر، ثم يرجع ليستكمل تداعيات الموقف التي تعرض له، وبهذه اللمحة العبقرية في الكتابة يلقي الضوء على الجانب الإنساني للشخصية كأساس مشترك ومن ثم يقدم لك المعلومة بانسياب تام.
الهامش في هذا الكتاب يمكن أن يحمل شخصيات أخرى مرتبطة بالشخصيات الأساسية، وبهذا تتكون لديك شبكة مرتبطة من الشخصيات المؤثرة في وجدان هذا البلد، أو بالأحرى مؤثرون في لاوعي هذا البلد.

من الأشياء المؤلمة في قصص هؤلاء الصنايعية أن كثير منها ينتهي أثره على ضوء كلمة واحدة مشتركة هي (التأميم).



الجمعة، 31 مايو 2019

GAME OF THRONES FI RAMADAN

GAME OF THRONES × السيرة الهلالية

(مفارقات ومقاربات)




تابعت بشغف استحواذي ضمن كثيرين حول العالم مسلسل Game Of Thrones خلال فترة زمنية طويلة قاربت العِقد (2011 - 2019)، فترة يمكن بعدها للفرد منا أن يقيم ويرصد تطوره كإنسان من عدة نواحي، ومع مراسم وداع هذا العمل الرائع، المتعلق وجداني بأدق تفاصيله والحوارات المقتبسة على لسان أبطاله، ومواقع التصوير، وموسيقاه الخيالية، يطفوا السؤال مُلحاً على جنبات العقل، هل تطورت شخصيتي خلال هذا العِقد كتطور أبطال العمل، شاهدنا أطفالاً في عمر العشر سنوات تمر بتجارب قاسية متشابكة لينتهوا بعدها ملوكاً في عمر العشرين على ممالك ممتدة، تابعنا الحِكمة على لسان رجال عاصروا أهوال الحياة فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ضل سعية بالاختيارات الضالة، ومنهم من أحسن فنال.

وتأتي الإجابة مُخيبة للآمال، فيخفف من وطأتها شفاعة أن هذه العمل الملحمي إنتاج فني ضخم، بُذلت فيه ميزانيات كان يمكنها أن تُغير حرفياً مجتمعات على أرض الواقع، إلا أن هذه هي طبيعة صناعة السينما والترفيه؛ أسر عقول وقلوب المتابعين بعيداً عن أرض الواقع، ومع ذلك لن تتمكن أن تصبح لاعب فنون قتالية بعد مشاهدة أعمال بروس لي، ولن تستطيع أن تصبح جون سنو، لكن ربما يمكنك أن تتأثر بحكمة الليدي أولينا تايريل أو اللورد فاريس وتيريون لانستر وسير دافوس أو تتعلم اتقاء أطماع شخصيات كاللورد بيتر بايليش.

وهنا تكمن قيمة الخيال والإبداع، نسج طبائع الحِكمة والفضيلة والجشع والرزيلة في شبكة فنية مُتقنة الصُنع يُفتتن بها المتلقي أياً كانت خلفيته، إنه سلاح الإتقان، والفن فعلاً مرآة للشعوب، وصناعة الفن مرآة لقدرتها على الخيال، والخيال محرك العلم والتكنولوجياً، والعلم سلاح آخر يتسيد به مجتمع ما على غيره.

هذا وقد صرح عزيزي القارئ الكاتب الكبير الفيلسوف المثير للجدل يوسف زيدان في بوست له على صفحتة على الفيسبوك بما مفاده أنه تابع المسلسل من باب اطلاعه على الرائج ووجد أنه مسلسل تافه يخلوا من الحبكة والعقلانية ولا يمكن أن يقارن بما لدينا من صراعات وقعت حقيقة كأحداث الفتنة الكبرى أو فترة حكم المماليك وغيرها، تلك مقاربة بين يوسف زيدان ومسلسل GOT فكلاهما مُثيران للجدل، في الحقيقة معه حق على الأقل في المُقاسُ عليه من تصريحه، (إحنا ملوك الصراعات) ولكن المفارقة هي عدم قدرتنا على تمثيل هذه الخامات الثرية أو استخلاصها منطقياً عن طريق الكتابة فضلاً عن تقديمها فنياً، ربما نتفاوض مع جورج أر أر مارتن وشبكة HBO على قراءة تراثنا وتقديمه للعالم على غرار ملحمة أغنيات الثلج والنار.

صادف انتهاء مسلسل GOT أثناء شهر رمضان الكريم مرتع الأعمال الفنية المصرية الرائعة (إللي على قدها وعلى قدنا) التي لا أشاهد معظمها درءً (لحاجات كتير)، واستعيض عن ذلك بالتماس استعادة مشاعر الطفولة في الأعمال الرمضانية القديمة، تَشكَل ذوقي الفني غالباً بمحصلة جهود (فؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، عمر خيرت وعمار الشريعي، علي الحجار وأنغام ومدحت صالح، نيللي وشريهان سمير غانم وفؤاد المهندس) وكان الاختيار هذا العام على مسلسل السيرة الهلالية (الملحمي) الواقع في ثلاث أجزاء (1998، 1999، 2000)، لأُفاجأ صراحة بمقاربات كثيرة بينه وبين GOT، هل هي مجرد صدفة، أم أن معظم الصراعات البشرية تشترك في شخصيات وعناصر كثيرة (الحب والخيانة، الجبن والشجاعة، الطمع والإيثار، الشتات والائتلاف)، (وممكن يكون جورج أر أر مارتن شاف السيرة الهلالية ماهي موجوده على اليوتيوب).

المهم، أنا لا أعتبر نفسي ناقداً، وهذا يحررني بطبيعة الحال من اتباع مناهج النقد في تتبع السيناريوهات وزوايا الكاميرا وفنون السينماتوجرافي والـ CGI بالنسبة لمسلسل GOT، أو نقد مجرد قواعد المنطق البسيط واحترام أدنى حرفية بالنسبة للسيرة الهلالية، وإن كنت أتمنى أن يكون لدي مثل هذه الخبرة، (وديني ماكنت عتقتهم) وهذا يعني أن ما يلي سيكون عرضاً لبعض المشاهدات التي أثارت انتباهي من مقاربات بين بعض الشخصيات والأحداث..

ولتقديري التام لجودة صناعة GOT وإدراكي لمدى تواضع صناعة السيرة الهلالية حتى مع مراعاة فرق الوقت بين صناعة المسلسلين.
فأنا آسف حتماً لما سترونه ..




مقاربات أبو زيد الهلالي مع Jon Snow


وُلِدا سفاحاً:
ولد أبو زيد الهلالي أسود البشرة (والبشرى) دلالة العبيد في تلك الأزمنة، فاتهم قومه أُمهِ (خضراء الشريفة) بأنها واقعت أحد عبيد أبيه (رزق بن نايل الهلالي) فحملت به سفاحاً وتربى تحت اسم (بركات)، ثم تكشفت الحقيقة بالتفافة (تويستاية عبقرية) لا أعرف مدى مطابقتها للعلم؛ بأن خضرا الشريفة قد توسمت (توحمت) في طائر الغراب النوحي الذي فرق الجوارح من تحته، بأن يصبح وليدها فارس أسود على غرار ذلك الغراب، ليصبح بعدها (بركات/سلامة/أبو زيد الهلالي).

على الجانب الأخر عاش (جون سنو) معظم حياته في بيت اُعتبر فيه نغل للأب (نيد ستارك)، يصعب على قومه قبوله خليفة لأبيه على الشمال إلا بعد معاناة، ثم استبصر به الغراب وبرأ نسله ونزاهة أبيه وأصبح بعدها (إيجون تارجيريان) (بيفسح التنين).

الغراب:
الغراب نفسه مقاربة بين المسلسلين فبينما أصل الحكاية في السيرة الهلالية نبوءة الغراب النوحي، فنجده في صراع العروش رمز الاستبصار الذي سيحصد العرش في الأخير (ثيرد أيد رافِن)

 









لم الشمل والتنبيه للخطر الأكبر:
أبو زيد الهلالي غاية هدفه إنقاذ عرب نجد من (الجدب) الذي لحق بأرضهم، ولم شمل كل القبائل المتناحرة (بني عقيل، الزحلان، الفوايد، الزغابة، بني هلال) وقبول حتى أشد القبائل كرهاً لنبي هلال ضمن الجمع في رحلتهم لمحاولة الاتفاق مع قبائل الهمج (البربر) وملك المغارب الباطش (الزناتي خليفة) ملك تونس الخضراء للوقوف في وجه الخطر الأكبر (الأعاجم).

جون سنو يسعى لذات الهدف؛ لم شمل كافة عائلات الشمال، وحتى قبائل الهمج (الوايلدنج)، وحمايتهم من خطر (الشتاء الطويل القادم) والاتفاق مع الملكة الباطشة (سيرسي لانستر) للوقوف في وجه الخطر الأكبر (النايت كينج)

Winter Is Here    /    الجدب إز هيير

 
الوعد الكاذب:
يسوق أبو زيد الهلالي الوعد الذي سعى إليه على طول رحلته، بأن يتحالف مع الزناتي خليفة لإحلال السلام ومحاربة الأعداء، وعلى أدنى الاحتمالات أن ينتصر على الزناتي سيفاً ليُنعِم على شعوب المغرب بحكم قبائل نجد العادل، ليتضح في الأخير أن حكم الزناتي الظالم الجائر أهون بكثير من ذلك الُحلم الكابوس، فقادة عرب نجد بما فيهم من شرور كامنه وخلافات مستعرة (مغلفين فقط بفروسية أبو زيد الهلالي)، سيكونون وبالاً على أهل تونس، وسيصبح (دياب) كبير بني زغابة الذي سيهزم الزناتي، أشد فتكاً بهم.

وعلى الجانب الأخر يقدم جون سنو الملكة (دينيريس تارجيريان) على أنها الُحلم الواعد للسبع ممالك، حُلم الحرية وكسر عجلة الاستعباد لشعوب الممالك، والحاكم الشرعي بديلاً عن (سيرسي لانستر) الملكة الجائرة، لتكشف الأوقات بعد طول الرحلة الوجه القبيح للوعد الكاذب، بالحرية التي لن تتغاضي (دينيريس تاريجيريان) إحلالها ولو بالخوف والقوة وبإحراق الشعب ذاته الحالمة بتحريره.

Let it be fear   /   ولا يوم من أيامك يا سيرسي



الشعار المنتصر:
ففي السيرة الهلالية نجد الشعار المنتصر لديهم متمثل في (دياب) كبير الزغابة، وشعاره (الذئب) الذي ظهر لـ (سُعده الزناتي) على صفحات الرمل أمامها، والذي قُدر له هزيمة الزناتي خليفة (أسد الغروب – الأسد العجوز)، فالذئب سيهزم الأسد.

وعلى الجانب الأخر فإن (الذئب) هو شعار حاكم الشمال (جون سنو) خليفة بيت أبيه المزعوم (نيد ستارك)، ومن بعده أخته (سانسا ستارك) التي ستنفصل بالشمال كمملكة مستقلة عن الست ممالك الأخرى، وذلك بعد أن تُهزم (سيرسي لانستر) وشعار أسرتها (الأسد)، فالذئب سيهزم الأسد.

 




مقاربات دياب ابن غانم الزغابي مع Tormund


كفّة راجحة:
لا شك أن (دياب بن غانم) كان الثقل الذي أتاح لأبو زيد الهلالي رجاحة كفته، فهو قوي مقدام، رغم همجيته إلا أنه يحمل في جيناته صفات النبل والفروسية، ورغم الخلافات الكثيرة بينهما إلا أنهما عقدا تحالفاً أدى لانتصار عرب نجد على الزناتي خليفة.

وهذا هو الحال مع (تورموند) قائد قبائل الهمج (الوايلدنج) شعوب ما وراء السور، الذي أصبح بتحالفه أولى خطوات نجاح (جون سنو) في لم شمل الشمال، والانتصار على خطر جيش الموتى.

الهيام:
رغم صلف (دياب) وفورة التستسترون في داخله إلا أنه يهيم (بالجازية) أخت السلطان حسن، ويكفيه نطق اسمها أمامه لهز أركانه، وربما الخضوع وتحويل معالم الهيبة على وجهه.

كذلك (تورموند)، زعيم قبائل (الوايلدنج)، قاهر العمالقة التي رضع من ثدي إحدى إناث العمالقة بعد قهر زوجها، وقد قبّلَت النار روحه ليصبح ذو لحية كستنائية زنجبيلية (جينجر)، كل هذه الصفات الأسطورية تتحطم أمام خفة مقولته The Big Woman Still Here ?  (الليدي بيريان أوف تارث) الذي هام بها.



مقاربات أبو القمصان مع Samwell Tarly


أبو القمصان صديق البطل أبو زيد الهلالي، هزيل البنية لا يتقن النزال كصديقه البطل، ولكنه صديق وفيّ، يَتسِم بالحكمة والذكاء، وقد قُتل أبوه نجاح على يد أحد أكابر الهلالية، وحينما التجأ لأبو زيد ليقتص لقتل أبيه، سوّف أبو زيد معه الأمر ورفض بدعوى أنهم في محنة حرب.

سامويل تارلي صديق جون سنو، صعب الحركة ولا يتقن النزال كصديقه البطل، لكنه صديق وفيّ، يَتسِم بالحكمة والذكاء، وقد قتلت الملكة دينيريس تارجيريان أبوه وأخوه حرقاً بنار التنين (داراكاريس كده وهما واقفين)، وحينما التجأ لجون سنو ليقتص لقتل أبوه وأخوه، سوّف معه جون سنو الأمر ورفض بمقولته She is our Queen.



مقاربات العلاّم وزير الزناتي مع Lord Varys


ظهر العلام وزير الزناتي بمظهر الوزير المخلص الحكيم الذي يكتسب حكمته من علمه (بالخط في الرمال)، ويتماس علمه مع اسمه (العلّام)، بينما هو يطوع هذه الحكمة خفية في التخطيط لهزيمة ملكه، لاقتناعه الشخصي بأنه حاكم ظالم وأن الحاكم القادم سيحقق حياة أفضل للشعب المدحور.

يتشابه الأمر مع اللورد فاريس الذي يعمل في البلاط الملكي، مطوعاً كل حكمة لديه، التي يبنيها من خلال (همسات الصغار) فهو (The Master of Whisperers)، ليخطط من وراء الستار لتنصيب الحاكم الأفضل لمصلحة الـ (Realm).



مقاربات القاضي بدير مع Lord Petyr (Little Finger) Baelish


القاضي بدير لا يكل ولا يمل من نسخ خيوط الغدر بأي إنسان حتى ولو كان ذو قرابة، لا يسعى سوى للارتقاء ولو على أعناق كل البشر، يخون الصديق ثم يصدقه ليخونه مرة تلو المرة.

وهذا ما تميز به اللورد بايليش، وهو ما يتجسد في مقولته الشهيرة (Chaos Is A Ladder) الفوضى سُلَّم، يثير الفوضى ليرتقي، أحب كاتلين ستارك وخانها، وأحب ابنتها سانسا ستارك وخانها.



Melisandre (The Red Woman) مقاربات الدرويشة أيلوله مع


امرأة عجوز، درويشه وأم الدراويش، لها أحوال مع القوى العليا والاستبصار بالقادم، تسعى في تجنيد دراويشها استعداداً للحرب المنتظرة، التي سينتصر فيها الأمير المنتظر.
ميليساندري خادمة إله النار، تبعث الموتى (جون سنو) من الرقاد، وتسعى دائماً في تجنيد الرجال (الأخوية) لخدمة إله النور في الحرب القادمة، (you’ll shut many eyes)



مقاربات مكحول بن الغطريف وجوده ملك الزحلان ومرعي مع Jaime Lannister


هي مقاربة عابرة ولكنها تسترعي الانتباه، حينما تبرز علامتان في السيرة الهلالية، وهي قطع يد الأمير مكحول بن الغطريف ليستمر باقي المسلسل مقاتل بيد واحدة، وكذلك الأمير مرعي، وحينما يقتل الأمير جوده عمه الفضل ملك زحلان، ثم يحمل نعت (قاتل الملك) وزراً على أعناقه لأخر المسلسل.
مع شخصية جيمي لانستر (ذابح الملك)، ذو اليد المبتورة.

فياترى هل كل هذه المقاربات هي محض صدفة وتلفيق خيالي، الأمر يستدعي التفكير.